منذ أن بدأتُ الكتابة الأسبوعية قبل أكثر من عشر سنوات وأنا أشارك إخوتي في الساحة الشرعية الرأي والنصيحة، وفي العام الماضي كتبت مقالاً تحت عنوان "القاضي والمفتي"، وذكرت فيه ما ذكر عند أهل العلم من أن القاضي هو القاطع للأمور المحكَّم لها، والقضاء يعني الحكم والإلزام، وهو فصل الخصومات وقطع المنازعات بإظهار حكم الشارع فيها وإمضاء الحكم لها على سبيل الإلزام. وأما المفتي المجتهد فهو المخبر عن حكم الشارع في أمر من الأمور، بعد أن يستقرئ الأدلة ويتتبع مقتضياتها ويخبر الخلائق بما ظهر له منها من غير زيادة ولا نقص ولا إلزام، وإن كان مقلداً نظر في مذهب إمامه ونقل للسائل حكم الحادثة منه. كما يتفق القضاء والإفتاء على أنهما إظهار لحكم الشارع في واقعة من الوقائع، فهما يشتركان في كونهما إخباراً عن الحكم. ويختلف القضاء عن الإفتاء بأن المفتي ينظر في الواقعة المعروضة عليه من قبل المستفتي ويحللها ليستخرج منها الأوصاف المعتبرة ويطبق عليها الأحكام الشرعية بعد استقراء الأدلة، في حين أن القاضي يعتمد على حجج الخصوم من بينة أو إقرار أو غيرهما ليكتشف منها ما ينبغي اعتباره من الأوصاف وتطبيق الحكم الشرعي عليه، ولذلك احتاج القاضي لكي ينجح في إصابة الحق إلى كثير من الصفات التي قد لا يحتاجها المفتي - في الغالب - من فراسة ويقظة وقريحة وخبرة، لأن المفتي يأتيه المستفتي - غالباً - بقلب أسلم ونية أصفى من الخصوم حينما يأتون القاضي، وكثيراً ما يتعمدون إخفاء الواقع وتمويه الحجج، فطريق القاضي في اكتشاف ما ينبغي اعتباره من الأوصاف أصعب من طريق المفتي، ولذلك احتاج إلى تلك الصفات دون المفتي، وهذا في شأن الفتاوى الخاصة دون العامة. كما يتميّز القضاء عن الإفتاء بالإلزام بالحكم، فالقاضي إذا جلس للقضاء وأصدر حكمه كان به ملزماً ولا مناص من تنفيذه على من صدر عليه عند اكتساب الحكم للقطعية، وذلك لأنه مقلَّد من السلطان ونائب عنه، فهو يستمد الولاية منه، وأما المفتي فإنه لا يلزم بفتواه أحداً، وإنما يخبر بها من استفتاه فحسب، فإن شاء قبِل قوله وإن شاء تركه، ولا ينشرها للناس لاختلاف الوقائع التي صدرت الفتوى على ضوئها. وعليه فالقضاء إنشاء لأمر لم يكن موجوداً قبل صدوره، وذلك أن القاضي ينشئ الإلزام على الخصم، بخلاف المفتي فهو غير منشئ وإنما مخبر فحسب. واليوم يتأكد لدي أهمية هذا الأمر الذي كتبته بالأمس، فالفقه علم غزير، ومصادره متوفرة منذ قرون وحتى اليوم بآلاف الأسفار والمراجع العلمية، والبحوث والدراسات الفقهية، ولذا ينبغي للمفتي أن يستوفي أموراً رئيسية قبل تصدره للفتوى، بدءًا بتاريخ الفقه ومداخله، ومروراً بمذاهب الفقهاء وأقوالهم وأدلتهم النقلية والعقلية مع القدرة على المناقشة والترجيح، وبلا تحكم ولا إلزام، مع درك لأصول الفقه وقواعده، ومقاصد الشريعة وسياستها، إضافة للعلوم الشرعية الأخرى واللغوية، ثم لابد من معرفة فقه الواقع الذي يفتى به، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وكما قال ابن القيم: "معرفة الواقع ومعرفة الواجب فيه"، وأي خلل في هذه الأمور الواجب توفرها فسينتج عنه قصور في الفتوى، ومن ذلك ابتعاد الفتوى عن النصوص أو عدم مطابقتها للواقع أو مخالفتها لمقاصد الشريعة في وجه من الوجوه، وأشدها بعداً من اجتمعت فيها هذه الثلاثة.. وإذا كانت الفتوى الخاصة بالفرد ذات أهمية؛ فإن الفتوى في الشأن العام من باب أولى، فالفتاوى يجب أن يراعى فيها أنها منهية للحيرة لا مثيرة للبلبلة، ولذا نرى كيف أن المجامع الفقهية قبل إصدار القرار في أي مسألة؛ تقوم بدراسات شاملة وكافية، ويكون مفصلاً للمسألة، ومبيناً للأدلة، حتى يكون أدعى للقبول، لأنه من المسلّم به أنه لا أحد يُستدل بقوله وإنما يُستدل لقوله من الكتاب والسنة والأدلة الشرعية، ومن حماية الشريعة وحسن تطبيقها مراعاة هذه الضمانات عند إصدار الفتاوى، ومع جميع ذلك فيبقى أن الفتوى غير ملزمة، إلا إذا ألزم بها ولي الأمر. ولابد أن يُدرَك أن الواقع قد تغير، وأن الوعي قد شاع، وأن العلم قد انتشر، ومن الواجب ألا تكون الفتوى مطلقة وعامة ومجملة، وإنما مقيدة وخاصة ومفصلة، وبدلاً من أن نقول يحرم أو لا يجوز مع أن لها حالات ليست محرمة، فلنقل: يجوز عند توفر الضوابط التالية، وإذا أردنا مزيد احتياط فلنقلب الصياغة ونقول: لا يجوز إلا عند استيفاء الشروط التالية، حتى تكون الفتوى موافقة للأدلة والأصول والقواعد والمقاصد الشرعية، وكذلك أدعى للقبول، وحماية للشريعة وحراسها من أن يطالهم الأذى. وكما أن القاضي يجب أن يكون في قضائه بعيداً عن المؤثرات والضغوط فكذلك المفتي، ومن باب أولى حينما تكون فتواه في الشأن العام الذي يشمل الملايين وليس كحكم القاضي الذي لا يلزم به إلا المحكوم عليه دون غيره. ومن درر الإمام الشاطبي قوله: "المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور؛ فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى درجة الانحلال، والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة؛ فمقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط؛ فإذا خرج عن ذلك في المستفتين، خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان من خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين...؛ فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق، أما طرف التشديد فإنه مهلكة وأما طرف الانحلال فكذلك أيضاً؛ لأن المستفتي إذا ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة، وهو مشاهد، وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي على الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلك، والأدلة كثيرة...". ومن النماذج المعاصرة التي تكشف عن علو الفقه والعدل حتى في حال المناقشة والرد ما وقفتُ عليه من كلام الشيخ عبدالرحمن السعدي في مسألة "الرمي قبل الزوال" في كتابه "الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة"، وهو يناقش رسالة الشيخ عبدالله آل محمود، والتي قرّر فيها "جواز الرمي قبل الزوال أيام التشريق كلها"، فقد قرّر الشيخ السعدي أن الخلاف في المسألة معتبر؛ حيث قال: "الرسالة (يقصد الشيخ آل محمود) واستدلاله لجواز الرمي قبل الزوال وفي الليل فهو بحث علمي، مثله ودونه وأكثر منه يبحث فيه أهلُ العلم، ولا يُعدّ شذوذًا ومنكرًا"، بل ذهب الشيخ إلى أكثر من ذلك، حيث قال بنظر العالم المدقق المنصف: "فأنت إذا وازنت بين استدلال صاحب الرسالة واستدلال الجمهور رأيتها متقاربة، إن لم تقل: تكاد أدلته ترجح"!، وهذا ما نريد استحضاره دائماً من الأمانة العلمية والتجرد الموضوعي والأدب الشرعي. ومع ذلك بيَّن الشيخ السعدي الفرق بين الحالات حيث قال: "ولكن الكلام في المناظرة والمذاكرة والتعلم والتعليم له حال، وهو النظر إلى الأدلة والتراجيح بقطع النظر عن الأمور الأخرى. والكلام في الفتوى كما تراعى فيه التراجيح فيراعى أيضاً فيه حالة الوقت وعمل الناس ومراعاة المصالح وسد المفاسد. فلو أن صاحب الرسالة لم يفت وينشر فتواه التي رجّحها واعتقدها لكان أولى فيما يظهر لي، وذلك لأنه حصل فيها ضجة كبيرة لم تسفر إلا عن نوع اعتراضات كثيرة وأمور تقع في القلوب وخوض العالم وغير العالم، ومخالفة الرأي العام في الفتوى، وكون فتواه مع ذلك - فيما يظهر - لا يكون لها عمل إلا في أفراد من الناس. فالفتوى يتعين على المفتي أن يراعي فيها جميع النواحي، فكم توقف كثير من أهل العلم عن الإفتاء فيما يعتقدون لأغراض من جنس ما ذكرته". وما أجمل أن نرى هذه النظريات في (فقه الفتوى) والتي تدرس في الجامعات والمساجد وقد طبقت على أرض الواقع. وللحديث صلة.. والله المستعان