حضارة الجزيرة العربية التي نسيناها أو قل تناسينا أن نكتبها وأن نسوِّق لها. نسيناها فنسينا أنفسنا حتى تهكم البعض إلى درجة السخرية عندما يقول قائل إن الجزيرة العربية لها تاريخ وحضارة. هذه هي حضارتنا التي كتبها الغرب ونفتري نحن العرب عليها! مخطئ من ظن أن الحديث عن تاريخ الحضارة هو الحديث عن تاريخ دولة بعينها! ومخطئ من ظن أن الحضارة بتاريخها هي حكر على أحد، فهي تاريخ إنساني وخاصة تاريخ الحضارات القديمة. فالدول تأتي وتذهب مع تعاقب العصور عليها وهذا يسمى التاريخ. التأريخ والفرق بينهما كبير تبعا للانتشار الإنساني في عصور ما قبل التاريخ؛ لأنه الإنسان الذي كان يحيا بحرية بدون سلطة الزمن وبدون سلطة التاريخ، يتجول متمتعا بسلطته على الأشياء وبحرية تامة وبدون قيود فأبدع ونقش على الكهوف وصور لنا ما يعجز العقل عن فهمه من عبقرية لم تلوثها أنانية الإنسان المعاصر! من الذي قال إن الجزيرة العربية بلا حضارة؟! ومن الذي سوغت له نفسه ذلك؟! وإن كان ذلك كذلك فلا يتعدى مجال حنجرته التي لم تمرر ما يخرج منها على العقل، فلم يتعب نفسه بالاطلاع على كتاب واحد من كتب تاريخ الحضارة، وليس بغريب في مناخ لا يقرأ فيه المثقف منا قبل المبتدئ؛ وهذه هي كارثة هذا العصر الذي لا يعرف فيه الفرد منا تاريخه بحسب أن تاريخ الحضارة العربية هو تاريخ كل إنسان عربي! وفي سياق هذا الحديث أعتب على هيئة السياحة والتراث الوطني لدينا، بأن لديها كنوزا لا حصر لها من تاريخ الحضارة الإنسانية التي يرجع إلى ما قبل التاريخ بآلاف السنين، وقد سجلت بالتحليل والتفسير معظم ذلك في موسوعتي (الجزيرة العربية عبقرية الإنسان) وأيضا ما يزخر به المتحف الوطني من هذه الكنوز التي لا تخرج لنا وللعالم سوى معرض المتحف الوطني في اللوفر الذي توافد عليه ما يزيد على ثمانية ملايين زائر في عدد من الأيام، ذلك لأن العالم متعطش لمعرفة تاريخ الحضارة في هذه المنطقة؛ حتى ساد عنا مفهوم العداء للآخر والإرهاب، لماذا؟ لأننا لا نسوق وننشر تاريخ حضارتنا وما لها من سمات في الحب والديموقراطية والسبق الأول في الهندسة المعمارية وصناعة المعادن والزراعة. لماذا لا نسوق للعالم بأننا أبناء الجنوب الغربي لقارة آسيا كما تسمى في التاريخ القديم أول من اخترع ما يسمى اليوم ب (الديموقراطية) قبل أن يعرفها العالم - على يد الكاتب المسرحي اليوناني (أرستوفان 446- 386 ق.م) - في مسرحيته الشهيرة المعنونة ب (الضفادع 405 ق.م) والتي اعتبرها المؤرخون بأنها أول تبين درجات الرؤية لما يسمى بالديموقراطية! دعونا نقرأ ما كتبه رالف لينتون في كتابه الشهير شجرة الحضارة وهي دراسة محكمة في جامعة هارفر الشهيرة حول الحضارة والديموقراطية في جنوب غرب آسيا فيقول في هذا الشأن: "البدو يسيرون مستقيمي الجذع وبخطى قصيرة، فهم قوم يحترمون رأي الآخر صغيرهم وكبيرهم، كلُ يشارك برأيه، ولا يستثني منهم أحداً، لأن ذلك نابع من تكوينهم واحترامهم لإنسانية الفرد منهم، فكما أن الأرض والآبار والشجر وكل خزائن الأرض، هي من حق كل منهم وبدون استثناء، فكذلك الرأي وحرية الكلمة.. يرى كل فرد لنفسه الحق مهما كان صغيراً في إبداء رأيه، والبدوي لا يرى أن هناك شأناً خاصاً به، وأن عليه ألا يتدخل في شيء دون الآخرين، بل إنه يعتقد أن ما يهم أي فرد في مجتمعه يهمه هو كذلك، وهذه السمة متجذرة في تكوين الشخصية نفسها، فهم أول من ابتدع مفهوم "الديموقراطية" وحرية الرأي والتعبير منذ العصر النيوليتي "5400، قبل الميلاد" لأن هذه المنطقة (جنوب غرب آسيا) في العصر النيوليتي كانت مركزاً لجميع الحضارات القديمة وهذا التاريخ هو ما ذكره لينتون في جامعة هافرد. عن تاريخ الحضارة في هذه المنطقة يقول في كتابه في موضع آخر: "لا يمكننا أبداً أن نجزم متى صُنعت أول عجلة، أو متى صنع أول محراث أو نول، أو متى صهر أول معدن، أو متى كتب أول نقش في تاريخ الحضارة، لكننا نعلم فقط أن كل هذه الاختراعات التي غيرت مجرى الحضارة في العالم قد نشأت في بلاد العالم القديم، وأنه يمكن تتبعها إلى هذه المنطقة، وأن ذلك قد تم بين عامي 5000 و3500 ق.م". فقد ظهرت حضارة العصر النيوليتي ثم عصر البرونز ثم عصر الحديد في تقدم الحضارة، ويمكن تطبيقها على المناطق التي تأثرت بحضارات منطقة جنوب غرب آسيا، كما ذكر رالف لنتون. بل ربما امتد تاريخها أكثر عمقاً وتوغلاً في عصور ما قبل التاريخ، "فقد تمت اكتشافات تنبىء بتاريخ قديم لتؤكد ما ذهب إليه لنتون بالرغم من زمن ليس بالقليل على ما ذكره في كتابه "شجرة الحضارة"، وعلى سبيل المثال اكتشاف حضارة العُبيد. وفترة العبيد (5300-4000 ق.م) وهذه الحضارة التي تم اكتشافها من قبل فِرَق التنقيب الغربيين، أشير إليها بأنها كانت فترة ما قبل التاريخ وتخص الشرق الأدنى مثل تل العُبَيِّد - الواقع غرب مدينة أور في جنوبالعراق، ضاحية ذي قار - اسمه فخار العصر الحجري الحديث العائد لفترة ما قبل التاريخ، ومنح اسمه أيضاً لحضارة العصر الحجري النحاسي التي تمثل أول المستوطنات في السهل الرسوبي لجنوب بلاد ما بين النهرين والخليج العربي ووسط الجزيرة العربية وشرقها. كما ويؤيد ذلك ما ذكره عالم الآثار بتلر Haward Crosby Butler، مدير البعثة الأثرية الأميركية من جامعة برنستون، والتي عملت في الجزيرة العربية أعوام (1889 - 1890) (1904 - 1905) (1909) بأن ثقافة العُبِّيد بدأت منذ حوالي 5300 ق.م واستمرت حتى بداية فترة أوروك 4000 ق.م. إن أغلب المكتشفات كانت لصناعة المجوهرات والأواني الفخارية، وشهدت فترة العُبَيِّد اختراع عجلة الفخار، وبداية العصر النحاسي كما اتسمت بمستوطنات قروية كبيرة وبيوت مستطيلة الشكل ذات غرف عديدة مصنوعة من الطين المشوي (آجر) مع ظهور أول المعابد العامة وفق هندسة معمارية متشابهة، كما تُظهر السجلات الأثرية أن فترة العُبيد وصلت إلى نهاية مفاجئة في الخليج العربي وشبه جزيرة عُمان في عام 3800 قبل الميلاد. هذه هي حضارة الجزيرة العربية التي نسيناها أو قل تناسينا أن نكتبها وأن نسوِّق لها. نسيناها فنسينا أنفسنا حتى تهكم البعض إلى درجة السخرية عندما يقول قائل إن الجزيرة العربية لها تاريخ وحضارة. هذه هي حضارتنا التي كتبها الغرب ونفتري نحن العرب عليها!