دمج الاقتصادي الأمريكي "ريتشارد ثالر" بين الاقتصاد وعلم النفس ليؤسس لحقل جديد أصبح يعرف بالاقتصاد السلوكي، ونال مقابل عمله هذا جائزة نوبل التاسعة والسبعين في الاقتصاد التي أعلنت هذا الاسبوع. النظرية الاقتصادية التقليدية تقوم على افتراضات صارمة منها افتراض الرشد أو العقلانية في الشخص، وبالتالي فهذا الشخص يسعى لاتخاذ القرار الأكثر رشداً والذي تعظم منفعته في مقابل التكلفة التي يدفعها بناءً على المعلومات المتاحة له. وعلى العكس يقوم الاقتصاد السلوكي على أن الإنسان لا يتصرف بتلك العقلانية والرشد في استهلاكه أو استثماراته التي يفترضها الاقتصاد التقليدي وأنه يتأثر بعوامل نفسية واجتماعية وعاطفية في عملية اتخاذه للقرارات. ورغم أن ثالر يعرف ب"أبو الاقتصاد السلوكي" إلا أن اسهاماته في المالية وسلوك الأسهم لا تقل أهمية عن اسهاماته في مجال الاقتصاد، فإليه ينسب "أثر التقويم"، واحتوى كتابه "لعنة الرابحين فصلا كاملا عن آثار التقويم على أسعار الأسهم (أثر يناير، أثر قبل الإجازة السنوية، أثر نهاية الاسبوع). كما نشر مع دي بوندت بحثاً في عام 1985 توصلا فيه إلى أن أسعار الأسهم\ يمكن التنبؤ بها من خلال دراسة بياناتها السابقة وهو ما يخالف فرضية كفاءة الأسواق المالية التي فاز عرابها "يوجن فاما" أيضا بجائزة نوبل للاقتصاد. بنى ثالر عدداً من استنتاجاته في المالية السلوكية على نظرية الاحتمال التي نشرها "كانيمان و"فيرسكي" في 1979 عن التحيزات التي تسيطر على الشخص مثل تصوراته الشخصية والتحيز لما يعرف وسلوك تجنب الخسارة، وشعور الأفراد بألم الخسارة أضعاف فرحهم بتحقيق الربح. إلا أن كتاب "الوكزة: تحسين القرارات حول الصحة والثروة والسعادة"، الذي كتبه مع بروفيسور القانون في هارفارد "كاس سانستين" هو ما جعل ثالر معروفاً، كون هذا الكتاب يركز على كيفية الاستفادة من بحوث الاقتصاد السلوكي لصياغة الأنظمة والسياسات التي تساعد المجتمع على اتخاذ القرارات الصحيحة. وللمثال لاستخدام الاقتصاد السلوكي في السياسات العامة، يرى ثالر وسانستين أنه يمكن للحكومة توجيه سلوك الناس نحو الخيار الصحيح بجعله "الخيار الافتراضي" مستفيدة من سلوك الناس للتحيز لتفضيل "الوضع الحالي" حيث اثبتت التجربة العملية أن الأشخاص يتأثرون بالخيار الذي حدد لهم مسبقا، ولديهم ميل للبقاء عليه وعدم الخوض في خيارات أخرى (وهذا عكس افتراضات النظرية الاقتصادية التقليدية التي تقول إن الأشخاص سوف يذهبون للخيار الذي يعتقدون أنه أفضل لهم بغض النظر عن الخيار المبدئي الذي حدد لهم مسبقا). ويرى الباحثان أن الحكومة بمجرد جعلها لإحدى السياسات خيارا محددا مسبقا لمن لا يختار، فإنها ستصل لمبتغاها من سن القرار المعين دون أن يكون مفروضا بقوة على الناس (أي ستصل لتطبيقه بالاختيار لا بالإجبار). ويرى المؤلفان أن القرارات يجب أن تتسم بما أسمياه في الكتاب "الليبرالية الأبوية" بحيث يكون الخيار المحدد مسبقاً مناسباً للأغلبية العظمى منهم -وهذا هو الجانب الأبوي- كما أن للأفراد الحق في رفض الخيار المبدئي واختيار غيره -وهو الجانب الليبرالي أو الحرية. السؤال: هل هناك تطبيقات على نجاعة تصميم السياسات أو القرارات العامة بالاستفادة من تفضيل الوضع الحالي الذي يقول به الاقتصاد السلوكي؟ نعم.. ففي ولاية فرجينيا قامت الولاية بحث الموظفين الجدد على التسجيل في نظام التقاعد بحيث تدفع الولاية دولاراً من خزينتها مقابل كل دولار يدفعه الموظف للتقاعد، ولم ينضم من الموظفين الجدد للنظام سوى 20 % فقط. ولكن الولاية قررت أن ترفع مستوى النظام ليكون هو الخيار المحدد مسبقا للموظفين مالم يطلبوا الانسحاب منه -مستفيدة من سلوك "تفضيل الوضع الحالي"، فالوضع الحالي هو أن العامل مسجلا في النظام منذ توقيعه عقد العمل. وكانت النتيجة أن 91 % من الموظفين الجدد اختاروا البقاء في ظل هذا البرنامج حينما قدمته الولاية على أساس أنه الخيار المبدئي ولم يطلب الغاؤه إلا 9 % منهم.