ما أقسى تبعات الهرم، فالإنسان لا يهرم إلا عندما يحل أسفه محل أحلامه.. الهرم أفقد أمي ذاكرتها وأذبل وعيها وأوهن وجودها فأصبح مناطها كنجم وكأنه قد أفل ليقصيها عنا شططا.. ولمن أشكو عظيم فراقها وسوء حالها إلا لكاشف الضر عن أيوب والبث والحزن عن يعقوب. من أنت؟ أحياناً تسأل فأدرك كم انت يا أماه بعيدة.. ثم تعود وتتلمس وجودي وتدرك قربي فتتبسم وتجود علي بالدعاء وتصر علي بالعشاء وتسأل عن الأبناء.. وينهمر السخاء وأي سخاء.. تعود لها ذاكرتها في الليل آناء قليلة وفي النهار أطراف وجيزة فتشحذ الهمم وتجيش ما عاد لها من عزم لتتوجه بالسؤال عن أحوالنا.. فأستذكر قول الله عز وجل «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة». تارات قليلة تعود لها ذاكرتها في مهمة واحدة لا ثانية لها وهي دعوة رباه رباه.. آه كم تشعرني دعوتك بالأمان وترأب قلب أصدعته الأحزان.. أبدع الله في خلق قلبك يا أماه. تارة من تلك التارات أعياها التعب وأرهقها الألم وارتقاها حرضا فكنت أحاول بلا حول ولا قوة التخفيف من وطأة ما اعتلاها من سقم فحملقت بعيناها حتى غطت الجفون بياض المقلة.. نظرت بعينان ذبلت من دهر طال ومرض عضال.. وجفونها قد جفت وبشرتها قد اجدبت وتجعدت.. وقالت هل بك من ضرر.. هل أغسل ثوبك.. كما العادة سأهتم بك يا بني.. ففاضت عيناي كبائس معتل من سيل العبر وتذكرت قول الله تعالى (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ).. تالله تفتأ تذكر حاجتنا وتربأ بحاجتها ويهون عليها الألم في أوجه، أي عطاء هذا يا رواء الروح وعطاء الرب، أي بر لا يبخس حقك، أي رحمة عمرت قلبك، أي حب يفوق حبك، أي حنان لديك يذيب الصخر، والله قد فاح عبير عطائك في بهائك وفي قمة آلامك، في شبابك وفي مشيبك، حقاً من قال.. إنَّ الثّرَيَّا وإِنْ نَأَتْ .. يَصُوبُ مِراراً نَوْؤُها فَيجُودُ ما أجود أمي ونحن بجودها نحاول أن نجود ولن نجود.. ما أبشع الكبر وما يتبعه من هرم وما أقسى الحزن وقلة الحيلة.. ولكن ما أجمل الأمل والرجاء فلا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله.