الأحداث العالمية المتسارعة تضع "الجامعات" رهن مسؤوليات جسيمة، بأن تكون أكثر المؤسسات دولياً ملاءة لتجمع وتنتج أفضل العقول وتقدم أنجع الحلول بثقافة "نوعية" تشجع البحث عن المعرفة وتحويلها إلى تطبيقات عملية تحت مظلة تطوير المجتمعات والحيوات؛ وذاك ما يفرض عليها أن تتصدر مواجهة المشكلات والتحديات المعاصرة بكبرها وتعقيدها، وما يتطلب مقاربات مختلفة ذات خصائص جديدة وموارد غير مسبوقة؛ لتتكامل مع التخصصات الأكاديمية التقليدية. أستاذ جامعة هارفارد السابق، ومؤلف "أمة الابتكار" جون كاو (John Kao) أطلق مؤخراً اسم المشكلات الشريرة (wicked problems) مثل التغيّر المناخي، التدهور البيئي، الأمراض المعدية، والفقر المدقع.. وذكر أن كلها وغيرها من هذا النسق لا تحظى بحلول محددة عن طريق تخصص علمي محدّد، بل يتطلب تعاملاً جديداً مع مفهوم "الابتكار"، حيث يتم تكريس عدد كبير من التخصصات؛ لوضع خريطة طريق لأسلوب عملٍ ذي طبيعة مستديمة، وعلى الرغم من صعوبة التعاطي مع "المشكلات الشريرة"، إلا أنه يُمكن النظر إليها كفرص تدفع بالجامعات إلى التحرّر من النموذج الهرمي التقليدي، والقيام بتغيير أسلوب تفعيل عملية "الابتكار". إن طلاب الألفية الثالثة في الجامعات المتقدمة، يتعاملون مع تعليمهم وعالمهم بعقلية جديدة ومختلفة، وهي عقلية تُفضّل عادة النتائج على الإجراءات، وتُحبّذ التراكم المعرفي عبر أشكال معقدة من تفعيل "التواصل الاجتماعي". ولأن جيل الألفية يعدون أنفسهم رواد أعمال؛ فإن أدواتهم المتاحة تجعلهم راغبين بتحدٍ وإصرار في التصدي للمشكلات الصعبة، وسيكون هذا الجيل من الطلاب والقادم شريكاً مهماً للجامعات البحثية في مواجهتها لمشكلات العصر، وسيكونون كما يرى هولدن ثوب وباك قولدستاين في كتابهما "محركات الابتكار" قادةً للتغيير، دافعين التركيبة الأكاديمية لتقوم بجهد أكبر، وطارحين خلفهم الحالة الهرمية التقليدية في الجامعات للنقد، وهم بذلك يُصبحون قوة أخرى تدفع بالجامعة نحو مقاربات "ريادة الأعمال" للتحديات الكبرى. مشكلات العصر الكبرى اليوم تتحدى أفضل العقول؛ لأن الأمر تجاوز تخصصات معينة، كانت في السابق تستطيع أن تُقدم الحل الحاسم للمشكلة، وذلك قبل بروز "المشكلات الشريرة"، التي تُميّز الحقبة الحالية، والمتطلبة لبيئات معينة للتعامل معها، من خلال ما يتوافر للجامعات البحثية من إمكانات وموارد وعقول، وفرق عمل من تخصصات مختلفة تعمل بروح فريق واحد، منها ما هو تقليدي كلاسيكي وإبداعي ابتكاري؛ لتُصبح المكان الأنسب لهذه البيئة، إلا أن هناك عنصراً مهماً اليوم في هذه الخلطة، وهو فكر "ريادة الأعمال" تحديداً، وعند إدخاله وترسيخه الجامعات، فإن بإمكانها أن تبرز كمحركات ابتكار، وهذا ما تتوقعه المجتمعات منها.. وسأتوقف عنده في المقال المقبل بإذن الله.