لم تفلح مراجعات الجهاديين التي أصدرها منظرّو وفقهاء التنظيمات الإسلامية الراديكالية طيلة السنوات الأخيرة في وقف المدّ الجهادي العنيف. وأخطأ كثيرون حين راهنوا على «أفول» تنظيم «القاعدة» وانحساره لمجرد تصفية بعض قياداته ورموزه وتراجع نشاطه. فها هو التنظيم «الأصولي» يعود مجدداً كي يضرب بقوة ويعيد مع ضرباته أجواء الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 بكل حساسيتها وتعقيداتها. السؤال المركزي الآن هو: لماذا لم يتراجع الجهاديون عن أفكارهم وخططهم؟ وإلى متى ستدفع الغالبية المسلمة المسالِمة ثمن حماقة وتهوّر الأقلية المتطرفة؟ فالحقيقة الواضحة الآن هي أن عقداً كاملاً من الحرب على «القاعدة» والتنظيمات الراديكالية الملحَقة به، لم يفلح في اجتثاث بذور العنف والتطرف من مخيّلة وعقول الكثيرين، ويبدو أن تنظيم «القاعدة» قد نجح باقتدار في استنساخ «جين» التطرف وألقاه في قلوب وعقول كثيرين من الشبان العرب والمسلمين الذين ينتظرون دورهم في صفوف الانتحاريين. لذا يبدو ضرورياً أن تتم إعادة النظر في كثير من المقولات والبديهيات التي حكمت طريقة التعاطي مع تنظيم «القاعدة» وأشباهه على مدار السنوات العشر الماضية، وذلك حتى يمكن تفادي عقد جديد من الحرب الخاسرة عليه. أولى هذه المقولات تلك التي تربط بين الفقر والتطرف، وهي مقولة على رغم سذاجتها، إلا أنها هيمنت على المقاربة الغربية فى التعاطي مع ظاهرة العنف والتطرف. فالمكون الطبقي (الاجتماعي) للحركات الجهادية العنيفة يؤكد أن معظم من التحقوا بها، بخاصة تنظيم «القاعدة»، هم من أبناء الطبقة العليا الغنية أو الطبقة الوسطى الميسورة، وقد تلقوا جميعاً تعليماً حديثاً. وآخر العنقود في هذه السلسلة هو الشاب النيجيري عمر الفاروق عبدالمطلب الذي حاول تفجير الطائرة الأميركية «دلتا إيرلاينز» فوق مدينة ديترويت الأميركية عشية أعياد الميلاد. وكذلك الأردني همام البلوي المكنى بأبي دجانة الخرساني الذي قام بتفجير نفسه وقتل سبعة من عملاء الاستخبارات المركزية الأميركية في مدينة خوست الأفغانية قبل أسبوعين. وكلاهما امتداد لكل من محمد عطا وزياد الجراح ومن قبلهما أيمن الظواهري وأسامة بن لادن. فالعبرة هنا ليست بالفقر أو الغنى بقدر ما ترتبط بالصور النمطية الموروثة عن الجهاد والاستشهاد، ناهيك عن أنماط التنشئة الدينية والاجتماعية التي تلهب خيال الصبية والشباب. المقولة الثانية هي أولوية النصّ الديني على الواقع السياسي. فقد ارتكزت المقاربة الغربية، وسارت على نهجها المقاربة العربية، في علاج ظاهرة التطرف، على ضرورة تغيير محتوى النصوص الدينية والمناهج التعليمية من أجل تجفيف منابع التعصب والعنف. وقد اكتشفنا أن المعضلة ليست في النص الديني، وما قد يحمله من تأويلات مختلفة، بقدر ما هي في الواقع السياسي الذي يتم من خلاله «استنطاق» النصّ الديني وتحويله إلى مادة مشتعلة فكرياً وعقلياً. ومن المدهش أن معظم المنتمين الى التنظيمات الجهادية العنيفة، بخاصة تنظيم «القاعدة»، قد جاءوا من خلفيات تعليمية «مدنية» وليست دينية. فلم يلتحق أغلبهم بالأزهر أو بالمدارس الدينية في باكستان أو السعودية، وإنما تلقوا جميعاً تعليماً مدنياً حداثياً، في حين حظي بعضهم بفرصة الالتحاق بأرقى الجامعات الغربية كما هي الحال مع محمد عطا وهمام البلوي وعمر الفاروق وشباب 7/7 البريطاني. وهنا يصبح من نافل القول إن بقاء الأوضاع السياسية في العالمين العربي والإسلامي على حالها من شأنه تغذية «جرثومة» العنف الديني وبقاؤها فاعلة من دون انقطاع. صحيح أن النصّ الديني يصبح له مفعول السحر في نفوس الجهاديين، إذا ما جرى على لسان زعمائهم وقادتهم، بيد أن آلية تفعيل هذا النص تبقى ملازمة للواقع السياسي الذي يتم «تلبيسه» وإنزاله عليه. دليل ذلك أن النصّ ذاته يجرى تأويله وإعادة استخدامه بلغة تساير هوى ومصالح القائم عليه. فقد كتب سيد إمام الشريف، صاحب أشهر مراجعات، وثيقته حول «ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم» بالأسلوب واللغة اللذين كتب بهما كتابيه الشهيرين «العمدة في إعداد العدة»، و «الجامع في طلب العلم الشريف»، وعلى رغم ذلك لم يتوقف المدّ الجهادي. المقولة الثالثة هي إشكالية العلاقة بين الحداثة والتطرف. وهي مقولة تبدو مكملة للمقولة الأولى. فإذا لم تكن هناك علاقة بين الفقر (أو الغنى) والعنف، فهل ثمة علاقة بين التدّين والحداثة؟ أو بالأحرى بين الإسلام والليبرالية؟ وإشكالية كهذه على رغم تعقيداتها، إلا أن الوقائع تفندها. فمنبع المشكلة لا يكمن في عدم قدرة العربي أو المسلم على «هضم» منتجات الحداثة ومفاهيمها والذوبان في ثقافتها وقيمها، بقدر ما هو في ضعف مكونه الهوياتي والإحساس المتجدد بالضياع و «الدونية» الحضارية وفقدان البوصلة. وقصة الفتى النيجيري عمر الفاروق تبدو نموذجية لفهم هذه الإشكالية. فمن يراجع مدونته الالكترونية سيجد نفسه أمام عقلية تائهة وحائرة تبحث في أسئلة عويصة لقضايا معقدة، ولم يجد لها إجابة إلا هناك في جبال ردفان جنوب اليمن. وأمثال عمر كثيرون ويعيشون بين ظهرانينا، وقد يحالف الحظ بعضهم فيحقق لنفسه قدراً من التوازن الهوياتي والسيكولوجي قد يعصمه من التطرف، في حين يصبح الآخر أشبه بثمرة «ناضجة» تتلقفها أيدي الجهاديين كي تحولها وقوداً لأجندتهم المتطرفة تماماً كما حدث مع عمر الفاروق والبلوي. المقولة الرابعة، هي استمرار الخلط بين السلفية والجهادية. فقد جرى العُرف «البحثي» خلال السنوات الخمس الماضية على إلحاق التنظيمات الجهادية بالفكرة السلفية كي يشكلا معاً ما بات يعرف بمركب «السلفية الجهادية». ومن دون الاستغراق في مصدر التسمية، وهي التي لا تخلو من حسّ استشراقي واضح، فإن ثمة بوناً شاسعاً بين السلفية كجماعة علمية تقليدية (الآن بعضها ينحو باتجاه النشاط السياسي السلمي كما هي الحال في الكويت والسودان)، وبين التنظيمات الجهادية الراديكالية التي تبثّ الرعب وتمارس العنف من دون اجتهاد ديني أو حسّ إنساني عقلاني. وفي اعتقادي أنه قد آن الأوان لإعادة النظر في هذه التسمية انطلاقاً من حقائق عدة، أولاها أن الجيل الجديد من الجهاديين لم يمر بعملية التحول أو الانتقال التقليدي من السلفية الساكنة إلى نظيرتها الجهادية. بل كثيراً ما يتم الانتقال في شكل مفاجئ وجذري من الإيديولوجيا المحافظة conservatism إلى الراديكالية المتطرفة من دون مراحل وسطى (لم تُعرف عن همام البلوي أو عمر الفاروق أية انتماءات سلفية سابقة). الثانية، أن ثمة إحساساً باللوم والعتاب لا تخطئه العين لدى التنظيمات السلفية السلمية بسبب الربط بينها وبين التنظيمات الجهادية العنيفة لمجرد التشابه في الملبس أو طرق التفسير والتأويل. الثالثة، أن معظم المنتمين الى التيارات السلفية التقليدية لا يؤمنون بالتغيير الراديكالي للمجتمعات، وإنما يفضلون التعايش مع الوضع القائم وذلك أحد المآخذ عليهم. صحيح أن بعض المنتمين الى التيار السلفي التقليدي قد يلتحقون بتنظيمات راديكالية، ولكنهم حين يفعلون، فإنهم يحدثون قطيعة مع طبيعتهم الأولى. وفي اعتقادي أن هذه المقولات، وغيرها، تفرض ضرورة إعادة النظر في سوسيولوجيا العقل الجهادي، وفي عملية التحوّل الفكري والديني التي تحدث لكثير من الشباب العربي والمسلم شرقاً وغرباً. فالأمر لم يعد مجرد عملية «غسل أدمغة» تجري هنا وهناك، وإنما بات عقيدة جهادية راسخة تصعب محاربتها بمجرد توجيه ضربات جوية أو إغداق المساعدات المالية على هذا البلد أو ذاك. ولو أن عمر الفاروق لم يغادر بلاده نيجيريا متوجهاً إلى بريطانيا لإكمال تعليمه لربما لم يصبح متطرفاً أصلاً. وهو الذي لم يبدِ ندماً على فعلته، وإنما تحدث بفخر عن وجود ما يقرب من عشرين انتحارياً «جوياً» يتحينون الفرصة لتنفيذ مهماتهم الإرهابية. وهنا تمكن الإشارة إلى ثلاث نقاط جديرة بالنظر والتأمل، أولاها مستقبل المشروع الجهادي، فقد أثبتت السنوات العشر الماضية أننا أمام مشروع جهادي «ناضج» وليس مجرد إحساس مؤقت بالغبن أو بالرغبة في الانتقام من الآخر على سياساته وأفعاله. وهذا المشروع يبدو في حالة «ثوران» دائم كونه يملأ فراغاً وجودياً وهوياتياً لدى الكثيرين ممن أضاعتهم أنظمتهم وظلمتهم مجتمعاتهم وأهلهم. وهو مشروع يرى أن «النهوض» الإسلامي لن يحدث إلا بإزالة المشروع المقابل له فكراً وسياسة وحضارة (المشروع الغربي)، وهو ما لن يتحقق إلا عبر فوهة البنادق وإشعال وقود الطائرات بحسب إيديولوجية الجهاديين. النقطة الثانية، مستقبل العلاقة بين الغرب والمسلمين. فقد أنهى عمر الفاروق وهمام البلوي «شهر العسل» الذي دشنه الرئيس الأميركي باراك أوباما عند مجيئه الى السلطة ومبادرته الجريئة الى تحسين العلاقة مع العالم الإسلامي. وقد ثبُت يقيناً أن المشكلة لم تكن في أوباما، وإنما في العقل الجهادي الذي فسّر مبادرة اوباما على أنها علامة ضعف تستوجب إعادة الهجوم على «الثور» الأميركي. وقد أوضحنا في مقال سابق على هذه الصفحة (7/10) أن أحد الأهداف الاستراتيجية لتنظيم «القاعدة» هو إبقاء جذوة الصراع بين الغرب والعالم الإسلامي مشتعلة، وذلك من أجل توفير غطاء أخلاقي وسياسي لعملياته ونشاطه الإرهابي، وهو ما يبدو انه قد نجح فيه باقتدار. النقطة الثالثة أن العقل الجهادي لم يعدم القدرة على التحايل والابتكار. وأن الحديث عن تجفيف منابع التمويل والإمداد يظل مجرد أمنيات تفندها الوقائع. فقد أثبتت عمليتا عمر الفاروق وهمام البلوي أننا أمام عقلية انتحارية جبّارة ومبدِعة. وهو ما يؤكد أن حِيل الجهاديين وتكتيكاتهم لم تنفد، بل تزداد سرعة وتطوراً في شكل مذهل، ما ينبئ بأننا سنكون أمام جيل جهادي «فريد» أكثر قوة وشراسة من شيوخه، وحينئذ قد نترحم على بن لادن والظواهري. * أكاديمي مصري - جامعة دورهام – بريطانيا. [email protected]