لاتزال الإجراءات المعقدة والسلسلة الطويلة من البيروقراطية المملة تقتل عزيمة الكثير من الشباب ومراجعي الجهات الحكومية، وتحد من طموحهم لاسيما من ينوي منهم إنهاء الإجراءات المطلوبة لتأسيس مشروع خاص إو إنجاز معاملة حكومية عالقة أو ماشابه ذلك من متطلبات تستوجب عليه مراجعة دائرة حكومية، ومن ثم الدخول في دوامة المراجعات والتعقيدات والبطء الإداري الذي ينعكس سلبا على المراجع وتجعله يفكر أكثر من مرة في حال تطلب أمره مراجعة دائرة حكومية في وقت ينشد فيه الكثير سرعة تطبيق الحكومة الإلكترونية وتحول كافة أجهزة الدولة للعمل الإلكتروني الكامل والمتقن الذي يمكن أي شخص من إنجاز معاملاته بنفسه ومن داخل منزله دون الحاجة للمراجعات الطويلة، هذا إلى جانب تشتت كثير من المسؤوليات بين أكثر من جهاز حكومي الأمر الذي تضيع معه أوقات وجهود ومصالح كثير من المراجعين دون نتيجة. اليبرقراطية والرؤية بداية يوضح د. عبدالإله ساعاتي - عضو مجلس الشورى - أن التعقيدات البيروقراطية لازالت موجودة في الكثير من الإدارات الحكومية رغم تنافيها مع طبيعة العصر الحديث المتسم بالسرعة والمرونة، كما تتعارض مع مضامين رؤية المملكة 2030 التي تتضمن أهدافا إستراتيجية تؤكد على كفاءة الأداء وتحسن الإنتاجية والبعد عن الروتين وكذلك الإجراءات البيروقراطية العقيمة، متسائلاً عن دور معهد الإدارة العامة الذي يقوم بتدريب موظفي الدولة منذ (56) عاماً ورغم ذلك لا زال المواطن يعاني عند مراجعة الدوائر الحكومية من ضعف كفاءة بعض الموظفين وإنتاجيتهم، بالإضافة إلى ضعف أسلوب التعامل مع المراجع، مؤكدا على أن التعقيدات والإجراءات المملة تتناقض مع توجهات الدولة المتمثل في تشجيع الشباب على إنشاء مشروعات الخاصة نظراً لأن وظائف القطاع الحكومي والخاص لا تستوعب أعداد الخريجين. وذكر ساعاتي عددا من المقترحات التي تحد من التعقيدات والإجراءات البيروقراطية مثل إدخال التطبيقات الآلية واستخدام الإنترنت في كافة الأعمال الإدارية والمالية دون الحاجة إلى مراجعة الدوائر الحكومية والتعامل مع الموظف، بالإضافة إلى خصخصة القطاع الحكومي الذي يعد توجها عالميا بمسمى الحكومة الصغيرة حيث تسعى الدولة إلى تصغير حجم القطاع العام وتكبير حجم القطاع الخاص الذي يتمثل في الإدارة بطريقة اقتصادية والتعامل بشكل جيد لكسب الزبون، فضلا عن التعامل بمرونة وسرعة في الأداء والإنجاز. توظيف التقنيات الحديثة من جهته قال طارق الماضي - كاتب اقتصادي -: التقنية ساهمت في تغيير العالم بشكل سريع، لا مكان للبطيئين أو لأي نوع من البيروقراطية الإدارية أو المالية، حيث كلما كان الأمر أسهل وأسرع وأقل تكلفة كان ذلك أفضل للمنشأة والعميل، وقد أدركت بعض الدوائر الحكومية هذه الحقيقة بشكل مبكر فعملت على تطوير الخدمات الإلكترونية وتقليل العمل الإداري البيروقراطي والورقي بشكل كبير فكانت مثارا للعجب ومضربا للمثل، لافتاً إلى أن بعض المنشآت والدوائر الحكومية غير قادرة أو لا تملك العزيمة أو المعرفة لميكنة الإجراءات الإدارية لديها ووضع مخططات للإجراءات ومن ثم تحليلها وتحويل معظمها إلى عمليات إدارية يمكن تطبيقها وتنفيذها عبر الإنترنت من أي مكان في المملكة. وأشار إلى أن تحويل إجراء العمليات الإدارية من خلال الإنترنت في بلد شاسع مثل المملكة سيخدم ويسهل الإجراءات للمواطنين، لأنه ليس من المنطقي انتقال مواطن من منطقة إلى أخرى لإنهاء معاملته الإدارية رغم سهولة إنهائها عبر الإنترنت، مؤكدا في الوقت ذاته على أنه بدون الاستفادة من التقنيات الحديثة لن تتمكن المنشآت من خدمة عملائها بدون ارتفاع تكلفة التشغيل، وتخفيف ضغط العمل، داعيا إلى محاسبة أي دائرة أو منشاة لا تتجاوز البيروقراطية. أسلوب المحسوبية وأشار خالد الدوس - باحث أكاديمي متخصص في القضايا الاجتماعية - إلى أن البيروقراطية بمفهومها التقليدي أخذت طابعا سيئا وشاع استعمالها على نحو يحمل في مضمونه جملة من المظاهر السلبية التي تمس بشكل خاص الإدارة أو العمل الإداري في بعض الأجهزة الحكومية، وأصبحت البيروقراطية في قالبها الروتيني المعقد تتسم إجراءاتها الإدارية في معظم عملياتها بالبطء والجمود وسوء التخطيط والتنظيم الإداري وضعف التنسيق، وكذلك الروتين الطويل، وشيوع أسلوب المحسوبية والمنسوبية في إنجاز بعض المعاملات التي يقوم بها هذا الجهاز الإداري المترهل، وعرقلة التوصل إلى الحل، وعدم إنجاز العمل سريعا، مؤكداً على أن الاتجاه الروتيني البيروقراطي سمة بعض الأجهزة والمؤسسات الحكومية الذي قد يحول دون تحقيق التطلعات المنشودة، ومواكبة التحول الوطني ورؤيته الاستشرافية الذي يعتبر نواة ومنطلقا نوعيا لتحول إداري اقتصادي وتنموي يهدف إلى تسهيل الإجراءات الإدارية وتسريع إنجاز المعاملات في عصر المجتمع اللاورقي أو المجتمع الرقمي المواكب للتغيرات الإدارية الحديثة وصناعة العمل المؤسسي الاحترافي. وأوضح الدوس أن واقع البيروقراطية التقليدية المعقدة في بعض الأجهزة الحكومية تصيب المراجع - خاصة فيما يعلق بالمشروعات الصغيرة - بالإحباط والإرهاق بعد أن تدخل معاملته في نفق التعقيد ومسار المراجعات والرحلات اليومية على مطية الروتين الممل والإجراءات الطويلة التي من شأنها تأخير وتعطيل إنجاز معاملته، معتبراً ذلك مظهراَ من مظاهر التخلف الإداري وسوء التسيير، ومعوقاً للبناء الاقتصادي ومتطلباته التنموية، إلى جانب انعكاس ذلك على الحالة الاجتماعية والنفسية لأفراد المجتمع، وكذلك الصحية لأنه قد يضطر صاحب المعاملة إلى إهمال بعض مسؤولياته الأسرية للقيام بالمراجعات والتعقيبات الحكومية والإجراءات الإدارية، والسفر عدة مرات لإنهاء معاملته التي بالإمكان أن تنتهي إلكترونياً أو من خلال مراجعة واحدة، مشيراً إلى أن إحدى الدراسات الاجتماعية أثبتت معطياتها البحثية أن البيروقراطية في ثوبها التقليدي تساهم في التأثير على شخصية الفرد وتساهم في خلق مسافة اجتماعية بين أفراد المجتمع، إلى جانب تأثيرها على بعض الموظفين مما تؤدي إلى انخفاض الرضى الوظيفي وكثرة التغيب والتوتر وكذلك الإحباط والصراع الداخلي، وربما التسرب من الوظيفة الأمر الذي قد ينعكس على حياة المواطن الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، داعياً إلى ضرورة معالجة الفكر البيروقراطي التقليدي في بعض الأجهزة الحكومية وإعادة النظر في الأنظمة الإدارية وإحلال البساطة واختصار الوقت والجهد، بالإضافة إلى اعتماد معيار الكفاءة والخبرة وانتهاج سياسة التحفيز المادي والمعنوي. محبطه للشباب وقال د. عبد الله المغلوث - عضو الجمعية السعودية للاقتصاد -: يواجه الشباب قلة في وظائف القطاع الحكومي والخاص نظراً لما يشهده الركود الاقتصادي المحلي والعالمي، ومع ذلك فان لدى الشباب العزيمة والطموح من أجل البحث عن لقمة العيش وتحسين المستوى المعيشي والبحث عن موارد تغنيهم عن الحاجة للآخرين، فاتجهوا نحو التفكير بالدخول في مشروعات صغيرة ومتوسطة التي لا تحتاج رأس مال كبير كالمحلات والمطاعم المتنقلة إلا أنهم اصطدموا عند استخراج التراخيص والسجلات اللازمة لتلك المشروعات بالإجراءات والآليات التي تحد من إنشائها بسبب البيروقراطية والروتين القائم في الدوائر الحكومية فقتلت طموحات الشباب وتعرقلت مشروعاتهم، داعياً إلى تسهيل الإجراءات وتبسيطها نظراً لأنه ليس من المعقول أن يمر المستثمر الوطني الصغير على أكثر من عشر دوائر حكومية لإنهاء معاملته بعد جهد وارهاق، واقترح المغلوث وجود جهة رسمية تسهل جميع الإجراءات كمركز موحد لتقديم الأوراق المطلوبة للمشروع، والحصول عليها خلال 48 ساعة مع تقنين الشروط المطلوبة التي تختلف من منطقة إلى أخرى، بالإضافة إلى إنشاء هيئة تدعم المنشئات الصغيرة والمتوسطة. تجاوز البيروقراطية ولفت د. إبراهيم الفحيلة - أستاذ الإدارة والتخطيط التربوي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - إلى أن البيروقراطية أسلوب إداري يعتمد الدقة في تنظيم العمل إلا أنها أصبحت مؤخراً مرادفاً لتأخر الإنجاز وعرقلة الإنتاج، وانخفاض الرضا لدى المستفيد من الخدمة بسبب الروتين النمطي الذي تعتمده في عملياتها الإدارية، مضيفاً: كانت البيروقراطية تهدف إلى تقليل الأخطاء والحدّ من الاجتهادات الشخصية للموظفين الأمر الذي جعلها نمطاً سائداً في القطاع الحكومي في كثير من دول العالم بشكل عام وفي دول العالم الثالث بشكل خاص كونها النمط العقلاني الرشيد الذي يسعى إلى تقليل الأخطاء الإدارية، إلا أنها بهذا الشكل تلغي التفويض وتقلّص الممارسات الإبداعية وتعطّل اتخاذ القرار بسبب ما تفرضه من حدود ضيقة جداً للمسؤولية في يد السلطة العليا دون غيرها، وسلبية الإدارة البيروقراطية نتاج طبيعي لتضخم الهياكل التنظيمية وبالتالي فإن أي محاولة إصلاح أو تحسين أو تطوير للنمط الإداري يجب أن يتجاوز البيروقراطية كممارسة إلى السبب الجوهري في ظهورها وهو الهيكل التنظيمي الذي يركّز السلطة في اليد الواحدة ولا يعتد بالتفويض أو اللامركزية. وقدم الفحيلة عدداً من أهم حلول التخلص من البيروقراطية السلبية هو مراجعة وتحديث الهياكل التنظيمية لتجنب تركيز السلطة في مستوى واحد للإدارة، وضرورة العمل على إيجاد ثقافة تنظيمية تُعنى بثقافة العمل ورفع كفاءة الأداء، والتوصل إلى توصيف جيد ومحدد للوظائف، بالإضافة الى إيجاد قنوات ميسرة تربط بين الجهد المبذول وبين مستوى الإنتاج من خلال تبني اتجاهات إدارية تقوم على مبدأ الإستراتيجية كفكر وممارسة وأسلوب يقوم على مبدأ التفويض والمشاركة وتفعيل العلاقات العامة وخدمة العملاء والاستفادة من التغذية الراجعة بما ينعكس على جودة الأداء وتقليل الهدر في الوقت والجهد والمال، وهي خطوات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتأهيل القيادات وتدريب الموظفين وإيجاد معايير واضحة في التوظيف والاختيار. توحيد الإجراءات ولفت محمد الشويعر - كاتب صحفي - إلى أن الجهات الحكومية والخاصة تعتمد على إنهاء المعاملات بالطرق التقليدية، وتحتاج إلى أشخاص متعددين يعملون عليها، كما إنها تسير في إجراءات روتينية معقدة وتأخذ وقتاً طويلاً لإنهائها،مضيفاً: إذا أراد أحد الأفراد تأسيس مطعم أو محل أو منشئة صغيرة يواجه هذا المتقدم صعوبات جمة بسبب البيروقراطية القديمة التي تتبعها أغلب المؤسسات الحكومية فيمل البعض من هذا التعقيد ويلغي فكرة المشروع نهائياً إلى جانب تشتت المسؤوليات بين الجهات عند تأسيس أي منشئة، مقترحاً توحيد الإجراءات في مقر حكومي واحد يضم فيه جميع فروع الجهات الخدمية المسؤولة ليتمكن المواطن من مراجعة الجهات في ذلك المبنى دون عناء أو تعب، مع تشارك الجهات الخدمية في إنهاء الأعمال الخاصة بالمتقدمين الجدد ومساعدتهم على إنهاء إجراءاتهم في أسرع وقت، تشجيعا لريادة الأعمال بين الشباب والتفكير بالدخول في سوق العمل بسبب سهولة الإجراءات التي تتبع في تأسيس المنشئات والمؤسسات، مشيرا إلى نموذج مشرف تم تطويره على أفضل المستويات وخدم جميع المواطنين خدمة كبيرة، وهو نظام "أبشر" التابع لوزارة الداخلية الذي مكن من إصدار وتجديد الجوازات والإقامات وتأشيرات السفر وتصاريح بالسفر وغيرها من الخدمات التي يحتاجها أكثر المواطنين، حتى أصبح هذا المشروع عنواناً للتقدم. تفعيل التطبيقات الإلكترونية في كافة الأعمال الحكومية يحد من البيروقراطية د. عبدالإله ساعاتي طارق الماضي خالد الدوس د. عبد الله المغلوث د. إبراهيم الفحيلة محمد الشويعر