تجاوز الخطاب السياسي المعاصر ثقافة الاستهلال والاستهلاك لاعتلاء السلطة، ومشروعية الحضور في مسرح الأحداث، والتنافسية، وإدارة الصراع، وتلقين الجماهير، ومغامرات الهيمنة والنفوذ، وصناعة المستحيل، وبدا في حالة تمظهر جديدة من الحديث نيابة عن الجماهير بلغة مثقلة بالعواطف، والحماسة، واستزراع المشاعر على حافتي طريق الخلاص من الواقع؛ بحثاً عن مشروع العبور إلى ضفة الحلم، وتحقيق الأمنيات، والتغيير المصفوف بقيم الإرادة، والكرامة، والحقوق. الخطاب السياسي الجديد لم يعد حكراً على النخبة، بل امتد إلى الجمهور في حالة تعبئة، واختراق، وغرس ثقافي استغرق سنيناً من العمل بين الجماهير في صيغ متعددة من الحضور الممنهج؛ لتحقيق غايات أكبر من الوصول إلى السلطة بحثاً عن تغيير سياسات إدارة الحكم، وفرضها بإرادة الشعب، واختياره، وثقته، وتفويضه. التحول من النخبوية إلى الشعبوية في لغة الخطاب السياسي يمهد قطعاً إلى تحول في السياسات والتوجهات نحو اليمين والدولة القومية، ويبدو الأمر واضحاً في خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي تحدث إلى الشعب للمرة الأولى كرئيس بلغة شعبوية بامتياز؛ فهو لم يصف الاستلام والتسليم بين رئيس وآخر أو حزب ديمقراطي لحزب جمهوري، وإنما قال: "الشعب هو من سلّم السلطة"، وزاد أيضاً: "نحن المواطنين الأميركيين سنتشارك الآن في مجهود وطني عظيم لنبني بلدنا"، و"سنقرر سوياً النهج الذي ستسير عليه أميركا والعالم"، "وسوف أكون صوت الشعب"، "ولن يتم تجاهلكم مجدداً". هذه اللغة ذات الطبيعة الشعبوية القومية غير مألوفة في خطابات رؤساء أميركا السابقين، وتعبّر عن تحول حقيقي في إدارة الحكم، ودولة المؤسسات، والمصالح، وتثير معها مخاوف أيضاً، خاصة حينما قال ترامب: "سنبني تحالفات جديدة"، وعلينا "توحيد العالم ضد التطرف الإسلامي"، وهي إشارة مهمة أن "أميركا أولاً" تتغيّر، ولكن إلى أي حد؟، وهل غالبية الشعب الأميركي الذي تحدث إليهم رئيسهم لحظة تنصيبه يتفقون معه؟، أم أن دولة المؤسسات لها رأي آخر؟ الخطاب الشعبوي يكون مقبولاً في أنظمة حكم شمولية، ولكن في دول ديمقراطية مثل أميركا هو تشكيك في قيمها، وفلسفتها النظرية التي قامت عليها، وبالتالي ترامب الذي خاطب الشعب بعاطفته أثار انقساماً حاداً داخل مؤسسات دولته، والنتيجة صراع قادم في الداخل الأميركي، حيث بدت إرهاصاته مع مسيرة الاحتجاجات الشعبية التي حاول امتصاصها في خطابه، ولم يدرك أنها مدفوعة من قوى أخرى لا تتوافق معه. عدوى الخطاب الشعبوي الأميركي انتقلت سريعاً بين مرشحي اليمين الوسط الفرنسي فرانسوا فيون، واليمين المتطرف مارين لوبن، حيث بدا واضحاً أن الشعبوية هي من ستقرر مصير الحكم هناك؛ ولذا نحن أمام ظاهرة خطاب جديدة في دول ديمقراطية تتحول إلى اليمين بإرادة الشعب، وهذا ما يخيفنا أكثر!