لطالما كنت طوال حياتي في حالة اشتياق إلى الوطن، أجد هذا الشعور متجذرًا في أعمق أفكاري وأحاسيسي، إنها العلاقة بين عقلي وبين الأرض، العلاقة بين عالمي المتخيل، والعالم الواقعي. خاصةً مع تلك البقعة من الأرض التي أصبحت أشعر بالحميمية بيني وبينها على مر السنين، ورغم هذا لا تبدو تلك البقعة من أجمل بقاع الأرض، لا تحاصرها الشلالات، ولا تغمرها الصحراء الذهبية ولا الغابات الاستوائية، ولكنها جميلة جدًا بالنسبة لي لأنها موطن طفولتي وذكرياتي. أحبها لتغيّراتها اليومية الصغيرة، ولطالما استطاعت هذه البقعة بث سعادة كبيرة في قلبي، إنها المصدر اللامنتهي لبهجتي الدائمة، قد لا أفهم قوانينها أو طريقة عملها، أو كيفية إيصالها لكل هذه المشاعر إلى ذاتي، ولكنني أشعر بأنني محظوظة وهذا يكفيني. إنها من تعوض غياب عقلي وقلبي أحيانًا، إنها من تملأ ثغرات روحي في كل فترات حياتي الصعبة، وهي المسؤولة عن خلق وقتل ذلك الشعور المميز داخلي، أقصد بهذا الشعور تلك اللحظة التي ينتابك إحساس بعدم الرضا في مركز حياتك- ويجعلك مهزوزًا، متقلبًا، فضوليًا، وجائعًا. أستطيع تسميته بشعور الحنين إلى الوطن. إنه الحنين الذي لا يمكن تجاهله، ولا تركه والمضي قدمًا. تخطر ببالي عدة كلمات مرادفة للوطن، الإيمان، الرحمة، الراحة. لطالما كنت مسلوبة لهذه الحالة من الحنين، ومن المألوف جدًا أن يتحدث أحد أصدقائي عني قائلًا: "ها هي ماري ماتزال تقف هناك وحيدة بين الأشجار، تكتب في مذكرتها شيئًا ما". ولكنني في المركز، أهتز، يحتلني الوميض. غير قادرة على الاسترخاء. أقرأ بعض الأفكار، ولكنني غير قادرة على تحويلها إلى شيء آخر. أقرأ عن الشاعر الذي ألقى بكتابه بعيدًا، أرفرف بانتباه، وربما أحلق قليلًا، أحاول التوازن، ثم أسقط مجددًا. إنني مدينة لهذا الوطن بأكثر مما أستطيع عدّه، بداية من الأفكار الصغيرة التي تطرأ على ذهني كل لحظة، إلى ومضات طفولتي مع عائلتي، كل هذه الذاكرة كانت هي السبب في جعلي أتمكن من الكتابة والتعبير. لا أستطيع كتابة الشعر دون العودة دائمًا والنظر إلى الوراء، إنها خزّان الوقود الذي لا ينضب. كي أصل إلى التعبير الأقصى الذي أتمناه كشاعرة وأنا أتذكر كلمات الشاعر الإنجليزي ت. س. إليوت وهو يقول: "وكل الأشياء على أنواعها ستؤول إلى خير.. وكل الأشياء على أنواعها ستؤول إلى خير". إنها اللحظة الوطن، حيث يرتد الزمان على المكان، وينطفئ الحنين ونصل إلى الراحة. هي الفكرة المطمئنة التي طالما ركضنا خلفها بكلماتنا وكتبنا وكل ما حاولنا فعله. وهذه اللحظة ليست محدودة بالمكان فقط، بل بالأشخاص أيضًا، إنهم المكان والزمان الحي. هم من يصنعون المعنى لكل هذا، وهم الأرواح المحرّكة للحظة. أشتاق إليهم ولا أفرق بينهم وبين الوطن، لأنهم هم الوطن بالنسبة لي.