صدر عن دار مدارك في هذه السنة 1434ه ديوان (قلبي يكبر أمامي) للشاعر (عبدالرحمن ثامر)، وقد جاء الديوان أشبه بتحفة فنية مبتكرة تجمع بين أربعة فنون بين دفتي كتاب هي الشعر والنثر والرسم والخط العربي فقد تولى تصميم الكتاب وكتابة عناوين قصائده الخطاط السعودي عبدالرحمن فايز وقام الرسام الصومالي مصطفى ليبان بابتكار رسمة مناسبة لكل قصيدة في الديوان، وقام الشاعر بوضع تغريدات نثرية مختصرة في نهاية كل نص شعري تحمل رؤية من رؤاه الخاصة. وحمل الديوان في مقدمته رؤية مختصره للشاعر عن الشعر من أجمل ما فيها (أن الشاعر يتيم قبل أن يكتب أول قصيدة، وبعد أن يكتبها يصبح يتيما عرف قبر والده ). وفي هذه المقالة التعريفية بالديوان لا أقدم رؤية نقدية عن تجربة الشاعر في أول عمل شعري يطبع له وإن كانت مشاركاته الشعرية منتشرة عبر الشبكة العالمية، ولكنني أحاول أن أتلمس ما يلفت النظر في ديوان (قلبي يكبر أمامي). وأول ما يلفت نظري هو اتكاء الشاعر كثيرا على الجمل الفعلية خاصة تلك التي تبدأ بالأفعال المضارعة التي تدل في مجمل ما في الديوان على بحث من الشاعر وتجدد وحدوث وعدم توقف ولعل عنوان الديوان (قلبي يكبر أمامي) وإن كان جملة اسمية كما هو مقرر عند البصريين إلا أنه جملة فعلية عند الكوفيين تقدم فاعلها عليها فلا تعدو أن تكون (يكبر قلبي أمامي) أول ما يصافحنا. ولعل سؤالا فضوليا ينتج من خلال هذا العنوان الذي يشي بشيء من الإشارة إلى ملاحظة الشاعر لنفسه وإدراكه لحركة داخلة ضمن لا شعوره يحاول تشخيصها فلا يجد شيئا سوى هذا التنامي والكبر لها أمام عينيه. هذا الذي يكبر هل هو قلب الشاعر أحاسيسه ووجدانياته ومشاعره؟ أم هو تجربته الشعرية التي يلاحظ نموها وتتابعها خاصة أن قصائد الديوان جاءت مؤرخة مما يدل على اهتمام الشاعر بعنصر الزمن. وإذا أضفنا إلى هذا الملحظ أمرا آخر وهو تلك المقدمة المختصرة عن الشعر ونموه وتغيره من مرحلة لأخرى كادت أن تكتمل الصورة لدينا بشكل أكثر فهو يرى أن الشاعر يتيم قبل أن يكتب أول قصيدة ثم بعد أن يكتبها يتحول إلى يتيم يعرف قبر أبيه..! واختيار الأب هنا دون الأم مع أن معناها في اليتم أعمق وأضخم له دلالة أخرى وأن قبر الأب الذي يجده الشاعر بعد أول قصيدة ليس إلا الشعر الذي يضحي مزاره قريبا على بعد بعيدا على قرب كما يقول ابن الرومي. والشاعر يلاحظ نمو وكبر التجربة الشعرية حين يقول إن الشاعر يكتب قصيدته للناس ثم تأخذه العزة بالشعر فيكتب قصيدته لنفسه وعندما يبلغ منه الوجع يتنازل عن كل قناعاته فيكتب نفسه للناس. هذه هي مراحل نمو التجربة الشعرية وهي القلب الذي يكبر أمام الشاعر ولا يملك إلا أن يتابع هذا النمو ويكتب مراحله مؤرخة تحت عنوان (قلبي يكبر أمامي)..! وإذا انتهينا من قراءة العنوان وما يدور في الديوان من الجمل الفعلية التي تشكل فيما بينها حركة بحث مستمر عن الشاعر وتجربته ننتقل إلى رؤية أخرى من زاوية تحاول سبر غور التجربة الشعرية وما يمكن أن يكون نموذجا تفسيريا لهذه التجربة فإنني أكاد أجزم بأن الشعر الذي يقدمه ثامر من البوح الشعري الرقيق الذي يشبه مقطوعات صوتية مموسقة (سوناتا) تبتعد كثيرا عن تعقيدات التجارب الشعرية المتعمقة في الرؤية الشعرية الفلسفية أو حتى الوجدانية وتنصب التجربة في ثلاث دوائر متصلة هي دائرة الرحيل ثم ما يتبعه من غياب ثم ما يلحقه من انتظار. رحيل ثم غياب ثم انتظار ما لا يجيء ..! هكذا هي نصوص الديوان في مجمل إشاراتها فاللغة الشعرية جاءت محملة بهذا البعد الإنساني الذي فطر على كره الرحيل والغياب والانتظار ومنذ زمن قال درويش (والموت مثلي لا يحب الانتظار .. !) ومن العجيب أن المفردات الثلاث (الرحيل - الغياب - الانتظار) وردت في الديوان بنفس العدد تقريبا (خمس مرات لكل مفردة). ولاشك أن هناك مفردات تدور في ذات الفلك كالوداع والهجر والبين والفراق ولكنها تصب في نفس ما نحن بصدده من هذه الدوائر الثلاث. والشاعر في إحدى تغريداته في الديوان يقول :"إن الرحيل اعتداء صريح على القلب" ..! ولكثرة هذا الاعتداء على القلب يصبح: "قلبي محطات الرحيل ونظرتي سفر تصافحه الدروب" ص39 ويصبح الشاعر صاحب تجربة عميقة في علم الرحيل: "عليم أنا بجروح الرحيل" ص101 ولا عجب فقد: "تذوق قلبي طعم المطارات نام على عتبات التذاكر صاحب أمتعة الذاهبين" ص101 هذا الرحيل العجيب الذي يشكل جزءا كبيرا من التجربة هو رحيل في الحس والمعنى يتلوه غياب وشعور بالفقد وحاجة إلى البحث، والغياب هو الوجه المؤلم للحياة لأن في الغياب حضورا آخر يدل عليه ويذكر به وهذا الألم أدركه الشاعر في تغريدة مهمة يقول فيها: "أقسى ما في الغياب.. الأشياء التي لا تذهب معه" هذه الأشياء يظل عطرها وبوحها وحنينها يشير إلى الغائب فيقربه حينا ويبعده أحيان أخرى ويعيش حينها الإنسان في قلق مستمر وانتظار بائس: "في يمين الحب في المقهى الموازي للعتاب وعلى طاولة الذكرى وكرسي الغياب كنت أستنشق حرفي والقلق..!" ص77 لذلك الغياب طعنة نجلاء قاتلة يمارسها من نحب بكل برود: "قالت: أتأذن لي بانسحاب؟ عجبت..! قفي !: أبكل برود سنطعن عالمنا بالغياب " ص101 ومع هذه الطعنة وهذا العذاب في الغياب يظل الشاعر يمارس الانتظار دون ملل لأن الأشياء تشير إلى الحضور: "أوما تعبت من اشتعال الليل فيك؟ أوما سئمت من انتظار الفجر ينبت في يديك..!" ص23 ويظل السؤال مشروعا أمام هذه الدوائر ماهذا الراحل الغائب المنتظر هل هو الحبيبة التي صنعت بإلهامها شاعرا كما جرت عادت قراء الشعر أن يخمنوا..؟ أم الغائب هو الشاعر نفسه وإحساسه بالاغتراب في دوامة التجربة هو قلب الشاعر الذي يقول عنه: "قلبي يمزقه اليقين بأن رحتله مؤكدة الذهاب" ص31 وقال عنه سابقا بأنه محطات الرحيل، هذا القلب والجسد الذي يقول عنه: "جسد متعب فؤاد مريض نفس عاجز وقلب مكسر ..!"ص81 ولا يزال هذا القلب "يرقب ليلا بغير ظلام" ص11، وفي "كل يوم يسأل البحر الصديق عن السفينة عمن مضوا ووجوههم للامجيء وشوقهم متعلق بحبال ذاكرة سجينة .." ص19 هذا الصمود وعدم الاكتراث من الصبر والانتظار يتفجر أحيانا بموقف مضاد مل من الانتظار ويحاول أن يعود .. لكن يعود إلى أين..؟ " لا تنتظر لا تنتظر وارجع إليك .."ص23 وهذا ما يؤكد أن البحث هو عن الذات بكل تجلياتها في الحرف والنشيد والغناء والزهور لذلك تفضحه اللغة هنا تعريه أمام الحضور: "تمالكت حبي نثرت جميع القصائد حولي ضممت الزهور التي جار فيها الغياب فلم تتفتح على راحتيك"ص59 فالقصائد/الزهور هي ذات الشاعر المفقودة.. هي الغياب المؤرق الذي استغرق مساحة البحث في هذا الديوان ويكاد ينكشف هذا اللغز في آخر مقطع ختم به الشاعر ديوانه حين يقول: " وأبحث عني في الماء.. ليس سوى الماء وكل المرايا عرايا وأطلبني في قديم الحكايا فلا أستطيع إليّ سبيلا هو الموت إلا قليلا .."ص111 إنها لحظات من المتعة الشفافة تقضيها مع ديوان ثامر الأول تستمتع فيها الحواس بما يفيض من مشاعر إنسانية وبإخراج الديوان البديع.