لا أملك بقعة مناسبة لأخطط فيها للقلب إذا ما فقدت الأرض، فهناك دائما حالة رقيقة جدا بين الكتابة التي تأتي بالحروف، والكتابة التي تأتي بالحنين الذي يحس، ولأنني كثيراً ما أقيس أوجاع الإنسان بعرض الورق، فإنني أجدني أفتح كوخاً من البوح الذي يبرهن للمجهولين والغرباء على أن هناك دائما أحلاماً تسرقنا قبل أن نتمناها.. ونيات تشد أيدينا نحو الفضاء لنعيش عيشة الفلاح الذي لا يتمنى أكثر من أن تثمر نبتة حقله وتجعل الطريق أقصر بكثير من ذلك الذي مشى عليه.. هنا.. أكتب بعد أن أرتب اللقاء لكاتبين يزوران الورق فيفتحان به الحكايات التي تحس فقط وربما لا تقال.. هنا آتي بكل الحياة وأربت على كتفها لتفتح صدرها إلينا جميعا في مكان ما خارج سطوة المكان.. فالحوار حدث معهما ولكن في منطقة متخيلة محايدة من الزمن سوى من ذلك الوقت الذي قلنا فيه كل الكلام.. ولمن أراد أن يعيش ذلك الالتباس الشهي بين الواقع والخيال.. لكاتبين فتحا قناديل الأرض.. وامرأة تخوض صراعها الكبير مع الحب والألم والشجاعة والضعف والفرح وأشياء كثيرة حيث شمال القلب.. فليرخي روحه. ويجعل الباب مواربا لشمالي . - كانت الساحة الرومانية القديمة في ايطاليا تصغي لمبانيها الأثرية القديمة في تلك اللحظة التي كان هناك ضجيج يفتح أبواب حضارتها الممدة على معابد ومدرجات وشيئا من الأقواس المهدمة.. كنت أجرب أن أطبع تلك الملامح الأثرية بداخلي، والناقد والمترجم السوري المميز الدكتور منذر عياشي يطيل النظر في سماء وجدها تزين الأمنيات لجنرال مجهول.. فيما بقي الشاعر البحريني المبدع علي عبد الله خليفة يغني لعصافير المساء تلك.. وفي يد كل واحد منا كاميرا وبقلبه صور وحكايات أتأمل تلك الطرقات الشاسعة التي بدت كأنها تعانق مبان أثرية لطالما حملت رائحتها.. عبير: مشينا طويلا دون أن نشعر بالتعب.. - انظر إلى الخلف.. إلى تلك المساحة التي قطعناها مشيا على الأقدام ثم أعلق: نعبر الطريق.. وكل مابداخلنا أيام مضت وأخذت منا الكثير، نمشي والكثير من قصاصات الروح تتشكل من عمر اللحظات والمواقف الصعبة وربما الحلوة التي مرت بنا.. قلوبنا معلقة بالسماء، وبالشجاعة والإيمان والحب يجب أن نعبر كل تلك المسافة . ولكن.. كيف تغيرنا ؟ وأين الأول منا والآخر.. !! - منذر يخرج ورقة وقلم من جيبه.. يدون بعض الملاحظات.. ثم يقول: هذا سؤال جميل ولكنه يقع في قلب الإشكالية - قديم و حديث - أول آخر . إن هذه الثنائية التي تبدأ بشئ وتنتهي بشئ أنا أقع خارجها ولا أؤمن بها وطوال حياتي أعمل على تبديد جوانبها، ذلك لأنني أنا وأنا لا أقع في اختلافين إنما أقع في الأفق الواسع والفسيح والمنفتح الذي لا يعرف أول ولا يعرف آخر، ويكون في كل مكان ويكون في كل زمان . هذه هي مسيرتي المعرفية هي ابتداء دائم لا نهاية له، ولذلك فإني لا أعرف طفولة معرفية كما لا أعرف كهولة معرفية، أنا مستمر معرفياً ودائم. - أرتدي نظارتي الشمسية التي كانت تتوج رأسي.. ثم أسأله: عبير: ذلك على الصعيد المعرفي.. ولكن ماذا عن الصعيد الشخصي... - يعيد الورقة والقلم إلى جيبه.. ينظر إلي بثقة شامخة ويقول مقاطعا: على الصعيد الشخصي مازلت ذلك الطفل الذي يدهشه ما يرى، أنا الطفل الدهشة، كان هذا أولي، ولذلك تأخذني الكلمة التي أقرأ إلى آفاق بعيدة جدا لا أعرف تاريخا لها على وجه التحديد، هل هو تاريخ ابتدأ معي حينما قالوا لي أنت في عمر الخامسة أو هو تاريخ أراه الآن وأنا في السبعين.. لا أستطيع أن أضع تاريخاً لبدء الدهشة عندي.. فأنا الدهشة المستمرة.. أنا الطفولة المستمرة. هذه هي حياتي. أما الآمال.. والأفراح.. وما يعيشه الناس في التوخي، فأنا من خلال ما أقرأ أجد سعادتي فقط.. أنا أقرأ لكي أكون وأكون بما أقرأ.. ولا شيء عندي خارج هذا يعد موجوداً، سعادتي فيما أقرأ، وحلمي أن أقرأ ما لم أقرأ.. لذلك أحزاني قليلة أو نادرة أو لا وجود لها، أكاد أقول. ذلك لأن كتابي معي أينما ذهبت وهذا يعني أن أفراحي معي أينما ذهبت، وهذا يعني أيضاً أن وجودي معي أينما ذهبت.. من ساحة الرومان في إيطاليا.. ناقد وشاعر يصوران سماء الدهشة والذكريات: بقيت واقفاً متهيئاً للعبور برغم التحديات الصعبة - أنظر إليه بدهشة.. ثم أقول له باندفاع: عبير: *حقاً.. هل حقاً أفراحك معك أينما ذهبت؟ منذر: -وتصوري: إنني أقول لتلك التي أحبها - مثلا - اكتبي لكي أراك، وحينما أقرأ أرى محبوبتي، وأسعد مايسعد به الإنسان هو أن يرى محبوبته من خلال مايقرأ، محبوبتي كلمة.. وهي تضع نفسها من خلال الكلمة، بل أقول لك أكثر من ذلك - سيدتي - أنني أعبد - الله - سبحانه من خلال ما أقرأ. - أصفق طويلا.. وأنظر إلى علي بفرح. عبير: *ما رأيك - ياعلي- بكل ذلك الجمال.. هل مشيت الطريق بنفس الفرح كما فعل منذر؟ - علي وقد ارتسمت ملامح البهجة على وجهه: - لا أعرف كيف عبرت طريق حياتي الطويل، لكنني عايشت هذا العبور لحظة بلحظة وأحببته وأكاد أتذكر كل تفاصيله فقد كانت كل أيامي ومنذ الطفولة مشحونة بكم لا أستطيع الآن عده من التحديات المعيشية والظروف الحياتية الصعبة ومن الإصرار على قبول تلك التحديات والعمل على مواجهتها والانتصار عليها، واجهت خيبات وانكسارات عديدة لكن أحمدالله أنني عند أغلب المفارق الحياتية الصعبة وجدتني أظل واقفا متهيئاً للعبور والتجاوز وإذا قارنت أجدني في المحصلة منتصراً ومحباً للحياة. كل أيامي كانت مليئة بالعمل المستمر منذ الدراسة في المرحلة الإعدادية وأنا أدرس صباحاً وأعمل من بعد الظهر وحتى الحادية عشرة ليلاً، وكنت سعيداً وقتها وأشعر بفخر لذلك. انقطعت للقراءة في المكتبة العامة بالبحرين لأكثر من سبع سنوات لأعوض عدم تمكني من الالتحاق ببعثة دراسية حكومية في الجامعة الأمريكية ببيروت كانت متاحة للمتفوقين وقتها. نظمت قراءاتي ونوعتها ومازلت.. كان الشعر سيد الموقف منذ البداية. عشت في بيت كل من فيه يحفظ الشعر الشعبي ويردده وكانت ذاكرة الأم تختزن الكثير وقد سقتني منه مع الحليب وكانت مصرة على أن أحفظ القرآن الكريم ويرجع لها الفضل -رحمها الله- في مزاوجتي كتابة الشعر بالفصحى وبالعامية. طريقي مليء بالمحطات أتوقف عندها مجتهداً في البحث عن شيء وعند كل محطة أحاول أن أترك أثراً قبل أن أغادر حتى وإن كان بسيطا. شيدت جسوراً وبنيت أعشاشاً ومخابئ وحاولت التعرف على الكثير من البشر. شغفي عظيم بالموسيقى وبالفنون الشعبية وأرى الحياة رغم كل ما فيها من مآسٍ وأحزان جميلة وتستحق أن تعاش وأن تكون أجمل مع من نحب. - ينظر إلينا.. يصمت قليلاً ثم يكمل وكأنه يتحدث لنفسه: * ماذا تغير بي من بعد رحلة حاولت أن أوجزها باقتضاب.. ؟ - ما تغير بي هو ما فعلته سنوات الكد وتراكم الأيام.. لكن هذا أنا كما كنت مع شيء ثمين من حصيل التجارب مع البشر وما يمكن أن تعطيه الحياة من تفاؤل بأن الغد سيكون أجمل لمن سيأتي بعدنا. * نكمل التجول في بعض شوارع الساحة الرومانية.. تشدني بعض المباني الأثرية.. أمد أصبعي إليها وأقول: عبير: أنظرا.. مبان شامخة رغم فرار الزمن منها.. في البيوت القديمة.. دائما شيئ ما يذكرنا برائحة التاريخ.. في البيوت القديمة والأحياء القديمة والحواري نجدنا كما نحن دون تزييف. دون هذه المساحيق المتمدنة التي كم غيرتنا.. حينما ندخل الحواري القديمة.. حينما نمر قريباً من البيوت الطينية.. شيء في القلب يتحرك، وكأن هناك ذكريات تشعر. منذر: أنت قلت الكلمات الآتية: "التاريخ، القديمة، الطين.. الذكريات..أنا لا أؤمن بالتاريخ، فالزمان عندي هو مثول دائم، ولا أعود للقديم فالحياة عندي جديد دائم، إلا أنني أؤمن بالطين لأنني منه، وما كان طينا يعلو في مقدمته على الذكريات لأنه حضور دائم.. عندما أمر من بيوت الطين أشعر أني أمر من قلب الحضارة. والحضارة عندي لا تعني قديماً وإنما تعني الوجود الدائم المتقدم، الوجود الذي لا يعروه زوال ولا يغطيه فناء. ولذلك تدهشني هذه البيوت التي تملك حضوراً دائماً، هذه البيوت التي لا يستطيع الفناء أن يبددها ولا أن يحيلها نثاراً أو هباء، ولا يستطيع أن يجعلها ذكريات. الحب هو الوجود الذي لا ينتهي مع امرأة تفتح كل السبل من أحب من خلال الله يعرف الزيادة ولا يعرف النقصان - يعيد ترتيب نظارته على عينيه.. كمن يحاول أن يرتب أفكاره ثم يقول: أنا أفرق بين نوعين من البيوت إذا شئت.. بيت الحضارة وبيت المدنية.. بيت الحضارة تصنعه، بالإضافة إلى مادة الطين، تقاليد الإنسان ومعتقداته. وفي بيت الحضارة نحن نرى قاعدتين: قاعدة تقول: انظر في خط شاقولي إلى الأعلى، وقاعدة تقول: انظر إلى حياتك في خط أفقي.. الأولى نظرة إلى السماء، والثانية نظرة إلى المجتمع.. هذه هي بيوت الحضارة. فبيوت الطين إذن صلة مع السماء، وصلة مع الآخر، واندماج في المجتمع، وعيش مع مجموعة إنسانية متكاملة. أما بيوت المدنية فعلب مغلقة، لا يستطيع الإنسان فيها أن يتواصل مع السماء فيعرف امتداداً للخيال، ولا يستطيع أن يبني تواصلاً أفقياً مع الآخر لأنه في علبة مغلقة، فهو منقطع عن الآخر والآخرين. علي يردد منتشياً كأنه يغني للبيوت الطينية: لهذا المَكانْ. . لونُ ما يَدفع القلبُ بهِ حبا إلى العُروق فَيَلتقي في الجذر بالياسمين لُيعطيَ وَجْهَ الحياة حُنوَ الأمانْ لهذا المكان.. لهذا المكانْ ماذا أقولُ وسَيّدَة ُ الحَْرفِ هُنا قَدْ فتّحَتْ قلبي على أول سرّ مُقدّس في البيانْ ؟ - أتقدم إليه قليلاً.. ويدي تمسك بذراعي من الخلف.. أعلق: عبير: *هل تملك - ياعلي - الشجاعة حتى تقول للسيدة التي أمامك ما أول سر مقدس في البيان ؟ تعلو ضحكات علي.. ثم يقول: - الشجاعة الحقيقية في نظري هي أن تكون أنت في كل الحالات وفي كل الظروف ومهما كانت النتائج والمحصلات. منذر: الشجاعة أن نرتاد الأمور البسيطة جدً وليس أن نتخذ -كما نتصور- قرارات عظيمة.. فعلى سبيل المثال: أن أقول إني سأتناول وجبة غداء مع أمي، وهذه شجاعة، أو سأذهب بمفردي لكي أقرأ كتاب . هذه شجاعة وأن أنظر إلى كل آخر بوصفه مختلفا عني، ويحق له أن يختلف عني.. وهذه شجاعة . أما غير ذلك فهو أوهام تسكننا. الإنسان كلما أسس لقرارات بسيطة أنشأ بنياناً عظيماً، وليس مايسمى القرارات العظيمة هي الشجاعة. فما يسمى العلاقات البسيطة والقرارات البسيطة هي التي تبني أشياءنا العظيمة، فسلامي على فقير.. هذه الشجاعة وبسيطها. ونظري إلى شيء جميل و وتأملي فيه، وتعبدي - الله - سبحانه من خلال تأملي، فهذه شجاعة.. وإذا لم تكن الشجاعة تأملاً فماذا تكون؟ وإذا لم تكن بساطة. فماذا تكون ؟ هل تكون وهماً، ولعباً ودخولاً في الاستيهامات ؟.. لا، أنا أفهم الشجاعة كذلك، أي كماذكرت لك، وكفانا بالشجاعة ذكراً . الشجاعة أن تكون أنت مهما كانت النتائج والظروف سوريا تضع يدها على قلبها وتقول «مالنا غيرك يا الله» عبير: *ذلك عن الشجاعة.. ولكن ماذا عن الحب.. هل أنت خاسر فيه أم رابح؟ منذر: - أنا - ياسيدتي - مع الحب لم أربح ولم أخسر. فالميزان في الحب لدي ليس هكذا. أنا مع الحب استمراراً للحياة، فحينما أقرأ في القرآن - مثلاً - أجد أن الله - سبحانه وتعالى - قد رفع عني الحجب، ولذلك أذهب وأنا مبصر في الحب إلى أبعد مدى، الحب عندي مايزيد وليس ماينقص، وأنا لا أعرف في الحب نقصاناً، ذلك لأن لجوئي إلى من هو أعظم أو أعرف مني بالحب، وهو الله - سبحانه وتعالى - فأنا أحب من خلال ربي، ومن أحب من خلال ربه يعرف الزيادة ولا يعرف النقصان.. ولقد أعجب ونحن بصدد الكلام عن الحب كثيراً من النساء اللواتي يتشبهن بالورد.. وأقول لهن: تتشبهن بالورد وأنتن أجمل.. فكيف يكون هذا؟! وأقول لهن تتشبهن بالعطر وأنتن أعطر.. فكيف يكون هذا؟! وتتشبهن بالقمر وأنتن خلق الله الأمثل، فكيف يكون هذا؟! وإنني حينما أرى الآخر والأنثى أعظم ما في الآخر بهذا الشكل، فإن الحب عندي يصبح كوناً لا نهاية لسعته وعمقه. وهذا هو الحب.. فلا وجود للخيبات في الحب، والحب لا يحب التشبيه، أو التجسيد، أو تمثيل المرأة بشيء.. ولكن لدي موقف يثير ريبة السطحي والمتردد في الحب.. فالحب عندي مطلق يتسع لكل شيء.. والمرأة عندي مطلق يتسع أيضاً لكل شيء، والمرأة جمال مطلق، وهي عندي جمال مطلق يتسع لكل شيء.. لذلك من الظلم جداً أن أقول بأنني أقع في خيبة حب.. أو من الظلم أن أقول إنني ترددت في الحب أو أن الحب نقص، فهذه ألفاظ لا أعرفها في حياتي الشخصية.. ولا في حياتي العامة، ولا أعرفها - أيضاً - حينما أقف بيني وبين نفسي.. لذلك أستطيع أقول في حضرة الحب: أنا ذاك الذي تغمره سعادة دائمة. غير أني أحزن، ليس بسبب الحب ولكن بسبب من يفتقد للحب ولمعنى الحب.. وأحزن على من لا يدرك أن الحب هو تلك السعادة الممتدة، وإن الحب وجود لا ينتهي، ليس لشيء سوى لأن المرأة تفتحه على كل شيء. علي: أما أنا.. فمعدل رصيدي من الحب في الحياة كبير وبكل صدق أقول إنه رصيد معتبر، وكلما نقص تأملت من حولي وما حولي بحب وبأمل وتفاؤل فيعاود رصيدي إلى معدله الطبيعي. أنا في كل الأحوال لست مضطرا لأن أبيع.. أجدني دائما مشتر، وإذا وجدتني يوماً ما أخسر في شيء لا أبيعه بل أتنازل عنه وأرميه بعيدا حتى لا يتورط به أحد. - أدير ظهري.. وألم يرتسم على وجهي. علي متعاطفا: *ماذا حدث يا - عبير - لماذا هذه الألم ؟ عبير: - تؤلمني جداً فكرة البيع والشراء في الحب.. صعب جداً أن تجد بأن مشاعر الإنسان عرضة للمساومة، للبيع، ولتركها في سوق العرض والطلب. - أنظر إلى علي في محاولة لتغيير مسار الحديث: * متى تبكي ياعلى؟ علي في تعاطف وتأمل: كيف تشبه المرأة بالعطر «وهي أعطر»؟ أسافر إلى البعيد كغريب اختلط بالناس وذاب بينهم يهاجمني البكاء في مواقف إنسانية أتذكرها أو أعايشها فلا أحتملها، وقد تكون عادية لدى البعض، تبكيني مواقف الإنسان في لحظات ضعفه وأبكي تأثرا وإعجابا بموقف إنساني شجاع، وأبكي حين يصر إنسان على أن يفي بوعد ويصل حد الموت ولا يتمكن من الوفاء بوعده.. يبكيني حنان صادق وحب نادر وأبكي كثيرا لفقد من لا يعوض. أنا لا أخجل من دموعي ولا أداريها. وحين أنشد الراحة أتحامل على نفسي وأجمع بعضها وأسافر إلى بلد بعيد لا يعرفني به أحد.. غريب أختلط بجموع الناس وأذوب بينهم. ** ينظر إلى منذر.. يبتسم ثم يقول: ومنذر أيضا - مؤكد - أنه يبكي؟ منذر: هناك أشياء كثيرة تبكيني.. فأنا أبكي أولاً لأنني رجل، ومن لا يبكي لا يعرف الرجولة والصفة الأساس في كل رجل أن يكون دامع العين، فمن لا يبكي لا يستحق الإنسانية.. أنا أبكي وأنا مع جلال - لله - سبحانه.. خشية، وأبكي حينما أرى الطفل يضحك بهجة ومن غير مصلحة، حينها أرى بأن كمال الإنسان هنا، وهذا يبكيني لكي تكتمل إنسانيتي به. ولكنني أبكي أيضاً حينما أرى هذه المآسي التي أصيبت بها إنسانيتنا المعاصرة، ولأن الإنسان فيها غاب كونه إنساناً ليعيش كونه "في دائرة بعيدة عن الإنسانية ".. وأبكي حين أرى أن الرغيف لا يصل لأيادي خلق لا يحصون عدداً.. يبكيني أيضاً أن الإنسانية تغمرها شعارات كاذبة في معظم الأحيان، وأنْ يذبح أبناؤها بعضهم بعضاً، ولا ينتفضون أمام هذا الذبح العظيم كما هو حاصل اليوم، ويبكيني حينما أرى فتاة أو فتى في مقتبل العمر يعجبها أو يعجبه شيء من بهرج الدنيا وتسميه أو يسميه أساس الوجود، ولا يعجبها أو يعجبه الوجود نفسه.. بعيداً عن هذا البهرج عبير: *هل تعبت ؟ منذر: - أنا لا أتعب إلا جسداً.. أما روحي فهي في غاية السعادة ولا تعرف تعباً. وحين أتعب جسداً، فإن أول الأشخاص الذين أقول لهم ذلك هي "زوجتي" لأنها اناي الآخر. أما الروح فهي تعرفها تماماً، فمنذ التقينا وهي بين يديها. - نقترب من مقعد محايد في الطريق.. نجلس . يقابل ذلك المقعد رجل مسن يتكىء على عصاه الخشبية وهو يحاول أن يقطع الطريق.. عبير: *ترى.. كيف هي ملامح الشيخوخة في مرآة تحتفظ بصور ذلك الزمن الذي مضى؟ علي: - أنا من عشاق الحياة مفتوناً بجمال وإبداع الله الموجود في كل من حولي وما حولي، ومن يعشق الحياة يتلبسه كل جمالها وسيرورتها فلا يخاف الموت. الإحساس بتقدم العمر يرجع إلى مدى الإحساس بتجدد الحياة فإذا تأملت الأشجار المعمرة وهي تكبر وتتجدد عبر الفصول يتجدد لدي الشعور بأن لكل فترة من فترات العمر حلاوتها الخاصة ومذاقها المتميز. عندما أنظر إلى وجهي في المرآة أتأمل علامات التقدم في السن وما فعلته عوامل التعرية فيه فأشعر حقيقة باطمئنان لا حد له بأن شيئاً مهماً واحداً لم يستطع التقدم في العمر أن يسطو عليه ويغيره.. ألا وهو ابتسامتي المعهودة منذ أن عرفت الابتسام. أبكي حينما لا يصل الرغيف لأيادي من يحتاج إليه من الناس لم يستطع الزمن أن يسطو على ابتسامتي التي اعرفها جيداً - يضع منذر حقيبة كان يحملها معه على حافة المقعد. ثم يقول: أنا لا أؤمن بالزمن.. ولا يوجد في الفيزياء شيء اسمه "زمن"، وإنما هناك أطوار يعيشها الإنسان.. اتفقنا فيها على عدم التسمية اختلافاً مع نزعة التسمية الخادعة والتي لا تقول الأشياء حقيقة. أنا حتى هذه اللحظة مازلت ذلك الطفل الذي يمشي على الأرض، ولكن الجسد له حالات أخرى.. فحينما تقول لي زوجتي "إنني أصبحت في الخمسين.أو الستين. فأنا كذلك. أنا ما تؤرخه زوجتي لجسدي.. حينما أنظر للمرآة. أرى نفسي بعين ذلك الطفل الذي يسكنني فأعجب بما أرى. الدهشة رفيقتي، وهي أنثاي.. أما الكهولة فهو أمر تحدده زوجتي وهي دائما تغير رأيها في جسدي. - أميل برأسي نحو وجهه كمن يتلصص على سر: عبير: *وماذا عن قلبك.. ماذا يقول لك؟ يرفع يديه إلى السماء ويقول: - يقول قلبي "يا ألله"، لا سيما في هذه الظروف التي يعيشها بلدي سورية، سورية كلها تضع يدها على قلبها وكلها تقول "مالنا غيرك يا ألله"، وأنا العبد الذي خلقه الله لكي يعيش حياته أعيش حياتي وأنا أقول يا ألله.. وكذلك حينما أضع يدي على قلبي أسمعه يقول "أحبها.. أين التي أحبها".. وأسمع قلبي يقول "أريد أن أعيش".. وأسمعه يقول أشياء كثيرة للحياة ولكن لا أسمعه أبداً يتردد في قول الحب لمن يحبها.. ولا أسمع أنيناً أو انكساراً، بل إنني أسمع في قلبي شجاعة مستمرة واشتهاء للمغامرة، وتلذذاً في المعرفة.. وقلبي أخيراً يخفق بما أملك من كتب.. علي منتشياً وفرحاً: نعم.. عندما أضع يدي على قلبي أحسه فتياً متفاعلاً مع عقار تسييل الدم يقول لي بعنفوان: لم أتعب بعد.. واصل طريقك واعمل دون هوادة. وأرى على عرش قلبي أهلي وأحبتي وأصدقائي وكل الطيبين الرائعين من الناس. منذر وهو ينظر للسماء: أحلم بأن يعم الحب الإنسانية جميعاً.. إذا كان هناك حلم فهو هذا. لا أريد أن أعيش يوماً واحداً أسمع فيه أن حرباً تجري هنا.. وأخرى تجري هناك.. أن إنساناً يقتل إنساناً هنا.. وآخر يقتل إنساناً هناك. أحب السلام للإنسانية وهذا هو حلمي. - نقف جميعا.. يمد "علي" لي بصورة التقطها في ساحات روما الأثرية.. أتناولها منه.. وأقول: *ماذا كتبت عليها؟ - يقول علي والحب يتسع لكل شيء امامه.. كتبت عليها (تنفس هواء الحارة وخذ حق وجودك إلى آخر نفس.. وحين يأتي عليك الدور سيقول قائل: كنت يوما هنا)، ولن آخذ معي إلا صورة الفقد. - يتركان الحب بداخلي حائرا.. ويودعاني بعد أن تغيب أجسادهما خلف المدينة الأثرية تلك.. - أجلس على المقعد وحيدة.. أكتب بأصبعي على الهواء.. " إنسان الطين، الحب الطيب.. يسود الصمت.. أعيش تلك العزلة.. بعد أن ترك ذلك الرجلان بداخلي كل الكلام.. هنا في زاوية من شمال القلب. بورتريه بريشة الفنان السوري خالد جلل الدكتور منذر عياشي د.منذر في أحد المشاركات النقدية علي مع الدكتور عبدالله الزهراني في حفل عيد اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية منذر مع الناقد والكاتب عزت عمر منذر مع أحد الأصدقاء علي في الملتقى الثقافي علي في أحد الحوارات علي مع الفنان أحمد الجميري في إحدى الأمسيات منذر في الحديقة د. منذر عياشي صورة الشاعر علي عبدالله خليفة عام 1968 قبل عام من إصدار ديوانه الأول