من أبرز أسباب تفوق المرأة السعودية - في تقديري - هو فتح مجال التعليم بأنواعه وأنماطه كافة أمام الفتاة السعودية والاهتمام به شعبياً ورسمياً، حتى أصبحت الأسرة السعودية تفتخر بنبوغ بناتها وتفوقهن كما تفتخر بنبوغ أبنائها الذكور وتفوقهم.. في كثير من المناسبات العلمية والثقافية التي يكون للمرأة مشاركة فاعلة فيها، أجد أن تلك المشاركات تترك لدي انطباعاً آسراً بأن النساء في بلادي أصبحن أكثر قدرة على تشخيص الواقع وأكثر وضوحاً في رؤية المستقبل من الرجال الذين يستأثرون في الغالب بتوجيه دفة السفينة ولكن أحياناً إلى الواجهة غير الصحيحة. في ندوات علمية كثيرة ومؤتمرات في التربية والتعليم وفي تنمية القوى البشرية وفي الاقتصاد وفي القضايا الاجتماعية تجد أن النساء غالباً ما يأتين بأفكار ناضجة ورؤية موضوعية وتحليل مباشر للموضوع وهذا يدل على مستوى متميز في التفيكر والتحليل والتأمل ويدل أيضاً على تحضير واستعداد جيدين، بينما نجد أن مشاركات كثير من الرجال تأتي سطحية مرتبكة ومشتتة ويتضح منها رغبة جامحة في إبراز أهمية الشخص بغض النظر عن مستوى فكره ومستوى مشاركته وعلاقتها بالموضوع المطروح في تلك الندوة أو المؤشر. هذا انطباع عام لا يمكن بأي حال من الأحوال تعميمه على كل المشاركات الرجالية والنسائية، وقد يؤيد هذا الانطباع بعضهم وقد يعارضه بعضهم الآخر ويرى فيه تحيزاً للجنس الناعم، وقد تذهب خيالات بعض أولئك الذين لديهم شيء من «فوبيا» المرأة، إلى أبعد من ذلك فيشتم من هذا المقال أنها دعوة تُصب في صالح أولئك الذين أطلقوا العنان لفكرة «تحرير المرأة» وأرادوا أن تتمرد وتخرج عن إطار القيم الإسلامية الصحيحة. في ندوة علمية حول تعليم اللغة الانجليزية عُقدت في العام الماضي تحدث إلي أحد خبراء تعليم اللغة وهو أمريكي مسلم، وقال بعد إحدى الجلسات العلمية وبعد أن استمع إلى تعليقات المشاركين من الرجال والنساء، قال: ألا ترى أن مداخلات النساء كانت أكثر وضوحاً وعمقاً وأيضاً أفضل مقدرة على التحدث بالانجليزية بدون أخطاء واضحة؟. وتابع بعد ذلك: لقد كنت مندهشاً أثناء الجلسة العلمية فلم أكن أتصور أن أسمع من النساء السعوديات كل تلك الاستنتاجات العميقة والتعليقات العلمية وذلك النقد الساخر لواقع تعليم اللغة الانجليزية في التعليم العام والعالي. وفي مناسبة أخرى كان هناك تعليق مماثل من الأخ الدكتور إبراهيم الجوير الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود الذي كان يجلس بجانبي أثناء جلسات اللقاء التحضيري للحوار الوطني الذي عُقد في الرياض مؤخراً، حيث همس في أذني ونحن نستمع إلى مداخلة إحدى الأخوات المشاركات في اللقاء، وقال بابتسامته المجلجلة المعهودة: ألا ترى أن مداخلات النساء أكثر وضوحاً وعمقاً ومباشرة، بينما نحن الرجال نتحدث ونطيل الحديث، ونحور وندور في فكرة واحدة لا نستطيع إيصالها بسهولة إلى الحاضرين؟! وفي مناسبة ثالثة كنت أسمع إلى تعليق أحد الخبراء التربويين وهو يشير بمرارة إلى ضعف جدية بعض الطلاب الجامعيين وضعف اهتمامهم بالوقت وبالتحصيل العلمي وباستهتارهم بالأنظمة واستخدامهم كل أساليب التلاعب والتزويغ وعدم احترام الأساتذة والنظام الجامعي، أما في الجهة الأخرى فقد علقت إحدى المشرفات التربويات في إحدى الجامعات وأشارت إلى مشكلات أخرى تعاني منها الطالبة الجامعية السعودية، ولكنها أشارت إلى أنها أكثر اهتماماً بالتعليم وبالتحصيل العلمي وبالحضور وبالالتزام بقوانين الجامعة الأكثر صرامة بحقهن. هذه بعض الشواهد على بداية تفوق واضح للمرأة السعودية على شقيقها الرجل ويدعم ذلك المستوى المتقدم الذي نشاهده ونسمعه عند مشاركة المرأة السعودية في اللقاءات الإعلامية إذاعياً وتلفزيونياً ومن خلال الكتابات الصحفية، وكذلك ما نشاهده من تكريم دولي وإقليمي ومحلي لبعض السعوديات المبدعات في مجالات متنوعة.. التي تؤكد مرة بعد أخرى على أن المرأة السعودية أصبحت أكثر نضجاً وتفوقت على الرجل في تشخيص الواقع وفي تقديم رؤى واضحة المعالم لمعالجة قضايا المجتمع بأسلوب موضوعي ومنهجي وعملي. وإذا استطعت أن أحشد تأييداً لرأيي هذا، فلعلي أحاول أن أشخص أسباب هذا التفوق، على الرغم من أن المرأة تعد الأقل فرصة تعليماً وعملاً ومشاركة في النشاط السياسي والاقتصادي والإداري، وأنها أقل فرصة في التعرف على التجارب الدولية في المجالات التي تتخصص فيها سواء أكانت طبيبة أو معلمة أو إدارية أو ناشطة في العمل الاجتماعي! بالتأكيد لن أتحدث عن عوامل بيولوجية تختص بها المرأة عن الرجل أو العكس، إذ إنه لا جدال في وجود خصائص بيولوجية خلق الله عليها المرأة تختلف عن خصائص موجودة في الرجل، ولكن الاعتراف بمساواة المرأة للرجل في التكليف والعقل هما من سمات ديننا الحنيف، وجهود المرأة في تاريخ الإسلام وفي نهضة الحضارة الإسلامية لا تقل أهمية عن جهود الرجل وإن كان أقل كثافة، والانحطاط الذي حصل في عصور معينة في تاريخنا ثبت أنه بدأ بتحجيم جهود الإنسان ذكراً كان أو أنثى وبدأ عندما تم إحياء موروثات جاهلية - تمنح أحياناً غطاءً دينياً - تنظر إلى المرأة على أنها خطيئة وعورة وسبب في المشكلات الاجتماعية وعنصر قد يجلب العار في أية لحظة للأسرة وللقبلية. من أبرز أسباب تفوق المرأة السعودية - في تقديري - هو فتح مجال التعليم بأنواعه وأنماطه كافة أمام الفتاة السعودية والاهتمام به شعبياً ورسمياً، حتى أصبحت الأسرة السعودية تفتخر بنبوغ بناتها وتفوقهن كما تفتخر بنبوغ أبنائها الذكور وتفوقهم.. لا فرق. وهذا في رأيي تقدم في الوعي الاجتماعي ونمو في الثقافة الشعبية التي كانت إلى زمن غير بعيد تعد تعليم المرأة مدخلاً من مداخل الشيطان لإفسادها وإفساد الأسرة والمجتمع. وحقيقة لقد تأملت في هذه المسألة، وتساءلت: كيف حدث هذا التحول الثقافي الكبير في مسيرة المجتمع السعودي؟ ورأيت أنه على الرغم من أهمية القرار السياسي الذي فرض تعليم المرأة في بدايات مسيرة التنمية، إلا أن المجتمع بشكل عام كان مهيئاً لقبول هذا القرار، ولولا هذا القبول لما تم تطبيقه بنجاح منقطع النظير في مدة زمنية قصيرة. كما أن قبول العلماء المستنيرين وتأكيدهم على حق الفتاة في التعليم، كان عاملاً مساعداً في تحجيم جبهة الرفض. ومن العوامل الأساس التي ساهمت في تفوق المرأة السعودية تمسك المجتمع السعودي بالقيم الإسلامية النبيلة التي تدعو إلى تماسك الأسرة وتؤكد على أهمية رعاية الأبناء والبنات، وتمنع الاختلاط المحرم، وتؤكد وتمنح أهمية بالغة إلى السلوك الشريف. كل هذه القيم ساهمت في خلق بيئة محافظة تعيش فيها الأسرة، ولكن كانت بالنسبة للمرأة الملاذ الآمن من غوائل الزمان ومن تطرف السلوك، فأدى ذلك إلى استقرار نفسي وذهني للفتاة ومنحها الوقت الكافي للتركيز على دراستها وتعليمها ومجال عملها، وعلى عكس الشباب الذكور الذين تمردوا بشكل أكبر في السنوات الأخيرة على قيم الأسرة، وضيعت كثيراً من أوقاتهم المغريات التي تقدمها لهم التكنولوجيا والسفر، فكانت النتيجة أن الفتاة دائماً في تفوق، والمعدلات الدراسية العالية هي في صالح البنات على البنين، والتفوق العلمي والأكاديمي يسير عاماً بعد عام في صالح المرأة، والاستقامة والتوسط في السلوك والفكر أيضاً يسيران في صالح المرأة. ومن الأسباب الأخرى التي ساهمت في تفوق المرأة الدوافع الذاتية للتفوق التي تجدها عند الإنسان عندما يشعر أنه أمام تحديات كبيرة، فتطور المجتمع وزيادة وعي أفراده منح المرأة مزيداً من الاستقلالية في اتخاذ القرار: قرار الزواج، وقرار التعليم واختيار التخصص، وقرار العمل، وقرار تصريف شؤونها المالية.. ولكن هذه الاستقلالية تقابل بمحدودية الفرص وبتحديات عظيمة في تصريف شؤونها، ففرص اختيار التخصص المناسب في التعليم الحالي أمام الفتاة لا يزال محدوداً مقارنة بالرجل، وفرص العمل لا تزال شحيحة، وظروفه لا تزال غير مناسبة ومجحفة للمرأة، ومجالات الاستثمار للمرأة لا تزال ضعيفة ومربكة ومتعبة.. كل هذه التحديات أثارت - في رأيي - كوامن التحدي لدى النساء وشجعتهن على المطالبة بتحسين وضعهن العام، وبعث في نفوسهن الرغبة في التفوق وإجبار الرجل على الاعتراف بقدراتهن وإمكاناتهن وأنهم جميعاً في مستوى واحد، وظهر ذلك جلياً في تلك الإشارات التي ذكرتها في مقدمة المقال. وهناك أسباب أخرى كثيرة يمكن للمتأمل المنصف أن يستمر في تدوينها وشرحها ولا يتسع المقام للاسترسال فيها، ولكنها تؤكد حقيقة مبهجة في أن بناتنا تفوقن في الجولة الأخيرة وبانتظار جولات أخرى في المستقبل وفي الوقت الذي انطلقت فيه المرأة إلى الصدارة في بعض المواقع، فإنها تركت خلفها الرجال يختصمون ويتشاجرون بشأنها بين إفراط وتفريط.. وأنا أنصح أخواتي وبناتي بأن لا يلتفتن إلى تلك المشاحنات العنكبوتية أو الصحفية أو في المجالس الفاضية، فالنتائج في الميدان هي التي ستحكم في النهاية من هو المتفوق، ومن هو الذي يستحق المكانة العليا في قيادة المجتمع نحو النهضة الحضارية المنشودة.