كثيراً ما تسمع أحدهم يقول: كان نفسي أقول.. يحدث هذا بعد أن تنتهي جلسة حديث عادية أو حوار مع الأصدقاء أو الأسرة.. أو لقاء مرتبط بعمل.. أو حوار يتعلق بمصير.. أو مناقشة عادية مع آخرين لاتهتم لأمرهم.. ومع ذلك كنت تستطيع أن تقول ما بداخلك.. وما أنت مقتنع به.. أو تعتقد أنه يتناسب مع مجرى الحوار لكنك توقفت.. لست متعمداً ولكن لاعتيادك أن تتأخر في طرح ما لديك.. وتعيد التفكير عدة مرات لتقول ما لديك.. وأحياناً لاعتقادك أنّ ما ستقوله لايتناسب مع الحوار وعليك أن تستمع أكثر ومن ثم تفكر فيما ستقوله وما يمكن أن تؤثر به في الآخرين.. بالرغم من أنّ الحوار في الأساس اعتيادي ولايحتمل تأويلات.. أو توقفا للتفكير في المشاركة به.. أو أخذ الإذن.. أو انتظار مردوده.. خاصة في لقاءات الأصدقاء الودية.. أو الأسرية..! في الأسرة نتربى على مبدأين.. لاتتلقف فيما لايعنيك.. وعلى الإنسان أن يكون ثقيلا.. والثقل هنا يأتي من الرزانة.. وعدم التعجل في الكلام أو الحديث الذي لامعنى له.. من الطفولة تحرص بعض الأسر على تلقين الطفل في ألا يتدخل فيما لا يعنيه.. دون أن توضح ما هو المعني به.. ومتى عليه أن يتحدث.. وهو ما ينعكس مستقبلا ًعلى الشخصية.. خاصة لو ظل أسيراً لما تعلمه وتعوّد عليه رغم أنه غادر بيت الأسرة.. ومع ذلك لم يتعلم الفصل بين اللقافة الحقيقية وهي تعني عدم التدخل فيما لا يعنيه وهي من أصول الأدب.. وبين اللقافة التي تُلجمه عن المشاركة في الحديث.. والنقاشات التي تُحتم عليه أن يُشارك بها ولكنه في الغالب يتردد ويتوقف.. معتقداً أنه ليس هناك لزوم للمشاركة.. أو متردداً كمن يقيس خطواته قبل الانطلاق وهذه بالتأكيد تعطل مساره وتؤخره عن الانطلاق.. يتردد لأنه يخاف.. أن يخطئ أو يقول ماهو غير صحيح ولايروق للآخرين.. مع أنه يتوجب عليه أن يشارك وأن ينطق وأن يحاور من أجل أن يقول مالديه ومن أجل أن يتعلم أصول الحديث.. وقيمته في توسيع المدارك والالتقاء بالآخر وفتح الأبواب لمعرفة ما خلفها.. يتردد لأنه يتوجس من عدم تقبل ما سيطرحه ولذلك إن حاول مستقبلا ستجده يتلعثم وتغيب عنه قدرة الحوار.. ذلك أنّ الحوار مقدرة وعليك أن تسعى حثيثاً لأن تكتسبها بالتدريج وبالممارسة الفعلية.. وليس بالصمت والاكتفاء بالاستماع فقط.. والتحسر بعدها على تلك الرغبة التي تبددت في انتظارك للحظة قد تأتي بأن تقول شيئاً تشعر انك في حاجة لأن تقوله، وبين عجزك الآن وأنت قادر أن تقوله ولكن غابت لحظته ومكانه وزمانه..! المبدأ الثاني وهو المعاكس.. في أن تقول كل اللي في نفسك.. صحيح أو خطأ.. يتعلم الطفل ذلك المبدأ.. وهو عليه ألا يحرم نفسه من حرية التعبير عما يشعر به أو مايريد أن يقوله.. هذه الحرية غير مقننة.. أو محكومة بأطر بل هي مفتوحة.. من حق من أعطاها لنفسه أن يسرح ويمرح فيها كما يشاء.. يعتبر كل الضفاف له.. وكل الطرق تؤدي إلى مايريد أن يقوله.. لايروض مايخرج منه من مفردات بل يتركها تتراكض في المسارات وأحياناً لا مسار يختص بها.. يقتنع بقدرته الكبيرة في استخدام حريته في أن يقول كل ما لديه وما ليس لديه.. لاتقيّده أنظمة.. ولايلجمه الآخر الذي لايتقبل مايقوله.. ولا يقتنع به.. خاصة إن أصبح ما يقوله أو يفعله يشكل تعدياً على الآخرين.. هذا النمط من البشر يطلق عليه إنسان"خفيف" وكنا في طفولتنا نسمع الأم تقول لابنتها لاتمشي مع فلانة أو لاتتعلمي صفاتها.. فهي خفيفة.. والخفيف عكس الثقيل وهو النمط الأول.. هذا النوع من الخفة يقصد به الثرثرة واللقافة.. والحديث في كل شيء دون تحفظ أو تردد أو الخوف من الخسارة لأي شيء.. قد يتداخل مع ذلك الاعتداء على الآخر وفي الغالب هو اعتداء نفسي غير مقصود أو متعمد ولكنه يأتي من عدم التركيز في الحديث واحتكاره لنفسك دون غيرك ودون تفكير في ملابساته أو سلبياته أو تأثيره على الآخرين.. وهذ الخفيف قد يكون طيباً من الداخل ولذلك سيبتلع المرارة عدة مرات كلما صدَم الآخرين بسلوكه أو حديثه ولم يتعلم من أخطائه..! وما بين الثقيل الذي يقضي حياته وهو يردد.. ياريتني قلت.. أو تمنيت أن اقول.. أو لو عادت اللحظة لن أفوتها.. وذلك الخفيف الذي هو ايضاً تعبر به لحظات يتمنى فيها ألا يكون قد قال ما قاله.. أو تصرف بتسرع كما تصرف.. وقد يحادث أيامه ألا تتركه يستسلم للحظة ليس بها خط عودة.. ولايعرف فيها إلى أين هو ذاهب..! بين الاثنين يقف ذلك المعتدل أو الوسطي أو الذي امتزج بما لدى الاثنين.. وتوافق بهدوء مع إيقاع كل منهما ولكن أخذ ما يراه مناسباً له.. يتحدث ويتصرف كمايشعر ولكن بعد تفكير يتناسب مع المكان والزمان ونوعية الحديث الذي عليه أن يدلي به.. لايتردد في الحديث المفيد ولايدمن الحديث الذي يسقط من الغربال بسرعة بعد أن يتحدثه.. له خصوصيته.. وينطبق عليه ذلك الوصف بأنه شخص عادي يحكمه قلبه وعقله معاً.. يستشير جميع حلفاء دواخله عندما يريد أن يفعل شيئاً ولكن بسرعة يتخذ القرار ولايتأخر.. لأنه محكوم بزمن متسارع وراكض وفي الوقت نفسه أهّل حواسه على التعامل بهدوء وخبرة مع أمور الحياة حتى يتمكن من تشكيل لغة تواصل مع الآخر تتناسب معه وليس مع مايريده غيره.. وتعكس تفكيره ورؤيته للحياة..! 751