لماذا تأتي تصرفاتنا في الغالب عكس رغباتنا المعلنة او حتى المضمرة؟ ذلك لأن الرغبة، من اجل ان تتحقق بشكل سوي لابد ان تخضع في تطورها نحو الفعل لآلية معقدة. هذه الآلية اما ان تساعد على ان يكون الفعل منسجما والرغبة او ان تنحرف بها الآلية الى مسارات قد تشوهها، فيأتي الفعل مدمراً للرغبة وصاحبها وأحيانا مضرا لصاحب الرغبة ومن حوله. من المعروف أنه، في عالم الحيوان ينتقل الحيوان - غالبا - من الرغبة الى الفعل المباشر بالرغم من بعض احتياطات الحذر التي يقوم بها الحيوان قبل الانقضاض على فريسته مثلا. هذه المنطقة بين الرغبة والفعل لدى الحيوان لا تزال موضع جدل حول وجود ذاكرة ام لا لدى الحيوان. هذا ليس موضوع اليوم. الموضوع هو الإنسان وكيف يفكر، وتحديداً في منطقتنا وهو موضوع معقد ايضا لكننا بصدد تسجيل بعض الملاحظات الأولية. الرغبة موجودة لدى الإنسان كما لدى الحيوان، لكن آلية تحقيق هذه الرغبة مختلفة تماما وأساس هذا الاختلاف يقع في منطقة العقل الذي يتميز به الإنسان دون باقي المخلوقات. عند هذا المخلوق الملاحظ ان الرغبة تتحقق عبر مرورها بمنطقة الجدل (نوع من الحوار) المعبر عنه هنا بالعقل (هل هذه الرغبة مفيدة؟ ام مضرة لي ولغيري.. الخ). هذه المنطقة - العقل - مكتسبة من المحيط الذي يلي الولادة حتى الرشد، لذلك لا يكون العقل حراً بالمطلق لأنه محاط بدوره بدائرة الوجدان وهي دائرة غريزية في الأصل لكنها مكتسبة في جزء كبير منها نتيجة ثقافة سادت لقرون تتسم بالثبات وبخاصة عندما ترتدي اشكالاً مقدسة. بين جدل العقل وضغوط الوجدان يصدر الأمر لدائرة الإرادة. هذه الدائرة مكتسبة في الأصل لكنها بدورها معرضة لضغوط العقل والوجدان، لكنها مجبرة على تنفيذ منجز الآلية وتحقيق الرغبة والقيام.. بالفعل. آلية الانتقال من الرغبة الى الفعل تختلف من مجتمع الى آخر حسب درجة تطور هذا المجتمع وتحديداً في منطقة العقل ودرجة حرية هذا العقل وعدم خضوعه لضغوط الدوائر الأخرى وتحديداً منطقة الوجدان الغريزي بشقيها الغريزي والمكتسب. هذا ما يسم طرق تفكير هذا المجتمع او ذاك . فيقال هذا مجتمع عقلاني وذاك مجتمع عاطفي.. وبلغة تسمية الأشياء بأسمائها يمكن القول هذا مجتمع متقدم وذاك مجتمع متخلف.. لابد من الاستدراك بأننا هنا نتحدث بلغة المجاز اي بالذهنية السائدة في هذا المجتمع او ذاك. اما الاستثناءات في تصرفات مجتمع ما بشكل لا ينسجم والذهنية السائدة فتلك مهمة علماء النفس والاجتماع. ذنب من ان تأتي افعالنا مخالفة لرغباتنا ومخيبة لآمالنا؟ هذا سؤال معقد ومركب لكن لا بأس من ملاحظة ما يدور عبر هذه الرحلة المضنية بين الرغبة والفعل في آلية تفكيرنا كعرب ومسلمين. في المنعطفات الوعرة بين خطورة العقل مهما كانت رداءة زاده من المحيط وخشية الوجدان المزايدة - بكسر الياء - على العقل باختلاق جوانب غير عقلانية في الرغبة، يتجه خليط من الأوامر البيزنطية للإرادة. الإرادة المسكينة بدورها مسكونة بجدل مشوه بين العقل والوجدان. لذلك تجد نفسها مكبلة بثقل الذاكرة المشوشة التي تميل محصلتها للمكتسب المتناقض مع العقل المحاصر، «فتختار» هذه الإرادة الضعيفة الانحياز للمكتسب المتخلف وتقوم بفعل لا ينسجم لا مع الرغبة من حيث الأصل ولا مع البحث عن جدلية العلاقة بين الآلية - الخلطة - والواقع. وفي معركة كهذه يخسر العقل فتميل الإرادة اما الى السكون او القفز الجبان. القفز لمنطقة آمنة لا تستدعي المحاسبة العقلانية بل توفر مساحة للمزايدة على العقل بطرح مخارج مستحيلة لتحقيق الرغبة. هكذا تتقزم الرغبة بل قد تتخذ مسارات ومعان جديدة اقرب ما تكون الى التلذذ الذاتي ان عبر السادية او المازوخية. هكذا يتحول مشروع رغبة نبيلة الى ممارسة ذاتية اساسها ربما كان ذا علاقة بخير الآخرين. المؤكد بأن هذه الآلية بكل مكوناتها وما تقدمه من طريقة في التفكير والممارسة لا تعمل بشكل مستقل. الدولة وبناء على علاقتها مع طريقة التفكير هذه لا تكون بل لا تستطيع ان تكون محايدة بكل ما لديها من وسائل للتأثير.. الدولة وانطلاقاً من مصالحها لابد وأن تنحاز الى احدى مكونات آلية التفكير هذه.. هي التي تستطيع وبإجراءات ادارية حسب رأي احد المحللين تعضيد هذه الدائرة او تلك من آلية التفكير عبر «قرارات ادارية». صحيح وكما يؤكد احد الكتاب بأن العلة تكمن في آلية طريقة التفكير. لكن اسعاف الجرح النازف هو الطريق الأسلم لوضع برنامج علاجي يطول او يقصر لمرض الجسم كله. ومثلما يقول المثل الشعبي (المهبول ما ينسى سالفته). نقول عندما وصلت السيارة الى معظم المدن السعودية رأى الناس فيها شكلاً من اشكال الجمل المخزن في ذاكرتهم. لكنهم تجرأوا بناءً على «قرارات ادارية» سواء كانت هذه القرارات حكومية او عائلية او بمبادرة شخصية استثنائية على التعرف على السيارة من خلال ركوبها والتعامل الجسدي والذهني معها. لو قال قائل بأن ذهنية الناس لا تتجاوز مفهوم الجمل آنذاك ولابد من حملة تنويره لوضع السيارة مكان الجمل في آلية فكر الناس فربما لم يوجد سعودي واحد من اليوم يقود سيارة والمعنى يدق على كل الأبواب. والخلاصة انه يمكن القول إن إلقاء اللوم فقط على الذهنية السائدة هو نهج غير جدي لحل المشكلة مثلما هو غير جدي التعويل فقط على الإجراءات الإدارية.