في العطل، معظم الأمور والأشياء تبدو مزركشة أو تفقد صلابتها الداخلية، أو هكذا تريدين أنت، حتى الحصى تريدينه أكثر لمعاناً، وابتسامات الصديقات والأصدقاء جميعاً تبدو حقيقية. الزهور إذا نظرت اليها يفوح أريجها وتقدرين على تخزينه في رئتيك حتى عودتك إلى المكان الذي حضرت منه. أنت مستريحة كسولة وربما هادئة ووديعة خلافا لما أنت عليه. تخففت من فظاظتك وحراشفك التي كنت تدافعين بها عن كذا وكيت كخطوط لا يجوز التماس بها. في العطلة تنبسطين وتتبسطين حتى حذرك التاريخي تقولين عنه، ما عليك الا التخفيف منه، هنا فأنت بين أهلك وأصدقائك في عمان عاصمة الاردن. حاولي هنا الا تراقبي الآخرين، كون هذه علامة من علامات شغلك. دائماً كنت أردد: من راقب الناس لا يموت هماً وإنما يكتنز ويكدس تجارب اليقظة واللاتساهل والفضول الراقي الذي يزداد تذوقه عاماً بعد عام حين تنضج الخبرات وتحفر في الروح التجارب مضافة اليها تجارب الآخرين. كم تغيرت عمان منذ ثلاث سنوات، كانت زيارتي الأخيرة لها حتى اليوم، كم ازدهرت وازدادت غلاء بصورة قل نظيرها في بعض الأمور. كانت أغلى من باريس، نعم يعقل هذا وبدون مبالغة، أنا التي أعرف من أين اختار أغذيتي هناك ولا أعرف كيف يعيش أصحاب الدخول المتوسطة والتي دون ذلك، وسط كل هذا الغلاء. بالطبع يقال في وجهك ورأساً: أنت العراقية، نعم، أهلاً بك، بكم لكنكم السبب في ذلك الغلاء. أنتم أحرقتم الأسعار وألهبتم الايجارات والعقارات. سببتم اختناقات هائلة في السير فشوارع عمان في عموم أحيائها ضيقة، أرصفتها ضاقت أكثر عن السابق والمشاة يقفزون ما بين الاشجار والسيارات وهندسة عمارتها وفيلاتها البديعة. قال لي صاحب التاكسي: أهلاً بك لكن أيضاً أنتم السبب. أقسم لك لست أنا، قلت له. ربما اهلك أو اصحابك، أنتم سبب عموم ما يحدث لنا ومعنا. وكيف ذلك بالله عليك؟ البعض منكم حضر وجلب معه أكياساً كبيرة جداً، من نوعية التي نضع فيها النفايات وفي داخلها تكدست الاوراق النقدية ومن جميع الفئات والعملات، البعض جلب صناديق من المجوهرات والماسات والاحجار الكريمة، كانوا يستبدلون ويبيعون ويشترون. الحقيقة ان نقودكم لا تحصى ولا تعد، ترى من أين لكم كل هذا؟ ألم تشاهدي تلك السيارات الامريكية (هامر) هل تعرفين تلك الماركة؟ ضحكت في سري فقد أخبرني ابني وهو يعيش في كندا عنها. هامر على وزن داعر أو فاجر كما تحسبينها. كل سيارة تشبه فيلا، أي والله. من الجائز، العراقي اقتنى أو سرق أو نهب إحداها لكي يتذوق الأمركة، ولم لا. كنت أمشي في الشارع الفلاني وأكتشف ان السيارات التي تحمل رقماً عراقياً كانت أحياناً أكثر من الأردنية، بالطبع كانت هناك عربات من قطر والسعودية والبحرين والكويت الخ.. فازت عمان هذا الصيف بجميع الأشواط. العراقيون يحجون اليها قوافل وبكل ما يخطر على البال من وسائل. علمت أن هناك أكثر من نصف مليون عراقي، ويقال أكثر من هذا بكثير قد حضروا واستقروا ومروا وعادوا وغادروا إلى أمكنة أخرى. قلت في سري وأنا ابتسم؛ عمتي هي الغائبة الوحيدة فقط، أكملت الصورة بسمة قريبتي قائلة: هل تعلمين ماذا تفعل تلك السيدة ويومياً هناك، وبيتنا في الأعظمية قرب النادي الأولمبي في شارع عمر بن عبدالعزيز. أخرجت كرسياً من الخيزران ووضعته بالباب الخارجي على الرصيف، إنها تعرف ماذا تريد. غطت رأسها جيداً وبيدها مروحة من الخوص كانت تلطم نفسها بهواء قادم من الفرن بتلك المروحة، وكانت تسلم على الذاهبين والعائدين، وتلعن سنسفيل أرواحنا نحن أبناء أخيها، لقد تركت وحيدة كما غيرها من ملايين العراقيين، فلا الهاتف بنافع ولا النقود مفيدة، هو شظف الوجود والعلاقات، هو عوز الدنيا حين تصير بغيضة إلى حد الاشمئزاز. عمتي على الدوام كانت مثار إعجابي فقد كتبت عنها مجموعة نصوص سوف أنشرها تباعاً وآمل ألا تشتكي عليّ أو تغضب مني، فقد صارت وجهاً معلوماً وهي تجلس بين النسوة الجالسات في الشارع العام، إنهن يفقدن صلابتهن الروحية وغدهن وحاضرهن ولا يعرفن ماذا هن فاعلات بهذا اليوم الذي هن فيه، فهو يوم لم يفرغ بعد. إنهن يشتهين الموت ويردن تذوق هذه التجربة أيضاً فلا أوهام بعد تنتظرهن. حين أخبرت عن هذا وعنها لا أدري لم ضحكت وبكيت في ذات الوقت وأنا أحتضن أخويّ. كنا ندفع بعضنا البعض إلى امام ثم نشهق بصوت منخفض والدموع لفرط ما ماجت وتموج فهي لم تظهر الا مواربة. اثنان وعشرون عاماً لم أرهما، صحيح، وماذا يعني هذا، كأنها البارحة، وهذه تتأرجح بين الوحشة الجهيرة وبين الترنح من الأشواق. وذلك الرجل العزيز اختفى أيضاً، توفي. فجأة، لم يعد موجوداً. ابنه كتب له نصاً فذا عنوانه اورفوار، قلت له، يا حبذا لو أموت للتو لكي تكتب عني هكذا أو أقل منه. هي لم تكن قصيدة ولا مرثية، قلت لابني، أنت كتبت نفسك واتيالك الرقيقة تمسكها وتلف بها عمرك وعمري وعمره. موت العزيز يأذن لنا بالدخول اليه لا كنزلاء جدد ننتظر محطتنا القادمة، وإنما سوف نتخذ منه ملاذاً. في عمان، بغداد تبدو أبعد من سنة ضوئية. بغدادي يتصاعد بخارها من رئتي (والدواليب تغص بالجثث). أوضح لفريال أن جنينتها الفاتنة كالفردوس الموجود بالنسبة إليّ وبغداد جنتي المفقودة دائماً. أصدق آمال حين أراها وقد تجمع أفراد أسرتها وأحفادها من حولها وهي تردد: نعم، اننا نسترجع أطياف بغداد الاولى التي لن تعود الا بنا. سالار، ابنها المهندس الكيميائي المميز يردد، سنعود وما علينا الا الصمود امام العاصفة الخ.. لكن الكاتب والروائي الصديق الياس فركوح يبدو مكتبه في دار أزمنة للنشر، شديد الرحابة وهو يستقبلك، طريقته في الاصغاء شديدة الرهافة وكتبه الصادرة منوعة ما بين الابداع والتراجم الأشد تميزاً. يبدو الأمر بعيداً عن التصديق حين هاتفتني الروائية والصديقة هدية حسين قائلة: ان زوجها الكاتب والروائي البديع والصديق العزيز عبدالستار ناصر هو نزيل المستشفى الآن، لقد تهشم جسمه بحادثة فظيعة. يخيل إليّ أن الجميع في المملكة الاردنية هم على لائحة الانتظار في حادثة طارئة، ذلك ما كان يساورنا جميعاً ونحن نزور ناصر الذي بدا في وضعية كارثية، كانت نجاته أعجوبة وكانت صلواتنا بشفائه حامية، وكانت وزارة الثقافة الاردنية قد بادرت في خطوة راقية لتمكينه من بقية العلاج الفيزيائي على نفقتها الخاصة. من العسير الا تزدهر علاقتك بجمع من الصديقات والاصحاب التي تكللت ببهاء خفي، بفتوة الخطوات وعذوبة الاختلافات والتعدد فيما بيننا. كان تقويم اجندتي مضاء وطوال فترة إقامتي في عمان، المدينة ذات الأبهة المعمارية حقاً بجمال وحنان وألق الصديقات ونفسي وأنا بجوارهن وعلى التتابع لم يتركنني عالقة بخيط الهجران والترك، ولو عددتهن لأخرجتهن من الرقم وأدخلتهن في تعداد المواهب التي لا تتكرر. لقد احتملنني، أنا التي لم يحالفني الحظ أن أكون محتملة حتى من قبل نفسي كوني لا أطاق فعلاً.