إذا كان المتنبي يصنف أكبر العيوب البشرية في قوله: ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام فإن من أكبر عيوب الرجال من وجهة نظري أن يسلم الإنسان عقله لغيره فيبصر من خلالهم، ويُؤمِّن على ما يقولون، ويضع أقوالهم موضع المسلمات؛ لهذا فلست أنكر أن لدي كثيراً من العصيان والشغب، كان لديَّ!! وروضهما الزمن!! مازلت أذكر كيف كنت أركب الصعب، وأعشق التحدي وإن كان ضد رأي الأغلبية؛ لأنني كنت أؤمن أن الانسجام في المجموع بتماهٍ مطلق يدخل في عالم القطيع، مثلما كنت أتيقن أن من يؤمن بالراكد من الأشياء لن ينتج شيئا ذا قيمة في الحياة.. المهم أنني أذكر حقبة بعينها، وأذكر معها موقف سيّدٍ جليل القدر بكيت رحيله قبل أسابيع أمام الملأ مثل بكاء الأطفال بدموع لا تهاب الإعراب عن نفسها، حتى وإن رآها بعضهم تخدش كبرياء الرجولة. "أبو خالد" الأمير الإنسان رحل، ولا يعرف قدر رحيله لحظتها إلا من عرف قدر الأمان الذي يشعر به من اقترب منه وأحبه.. مواقف كثيرة خلدتها الذاكرة وحفظها القلب. ترأست النادي وكنت في وهج حماس الشباب! كنت أصغر رئيس نادٍ على مستوى المملكة إذ لا يسمح القانون وقتها بالترشح للنادي لمن يصغر أشهرا عن عمري حينذاك، ومنذ أن انتخبت وقتها وأنا يسكنني هاجس واحد، هاجس تنمية العقل الرياضي إلى ما هو أبعد من لحظة فوز عابرة، وقبل ذلك أن أخلص النادي من عزلته عن المجتمع وتخليصه من النظرة العامة له من غير الرياضيين، باختصار تحويله إلى مؤسسة لها وزنها على طاولة النقاش مثل باقي الإدارات الحكومية.. كانت فترة من العمر والخبرة لها مالها وعليها ما عليها، أخطأت فيها مرارا ومرارا، وأصبت مرارا ومرارا، وآمنت بهدفي إلى أن حققته، قد يكون النادي أخفق رياضيا في بعض ألعابه في ظل سياسة تخالف أرضية مزمنة لكنه نجح في تجاوز عزلته، وكسب هويته، وأصبح على طاولة أمير المنطقة، وحاضرا لدى كل المسؤولين.. من الطبيعي ألا يحقق النادي نجاحات رياضيات متتالية في ظل المواقف الحاسمة التي كنت أتخذها وكان ظرفه يحتاجها؛ لأنها خلقت من الداخل ضدي حزبا يرى أنني انتهكت خصوصيته، ودليل نجاح رؤيتي فيه أنه بمجرد أن جاءت إدارات بعدي توالت القفزات وخلال عام إلى تحقيق بطولات متتالية على مستوى المملكة، ولا زال النادي كذلك، ومعنى هذا أنني غيرت ما يجب تغييره، ولولا ذاك لبقي النادي بعدي سنوات طويلة لم يجن شيئا، ولذلك أقول لكل منصف: لماذا لم يحدث ذلك قبلي رغم عمر النادي الطويل، وإنما حدث بعدي مباشرة. ما يجعلني أجتر هذا الحديث رغم نسيان عالم الرياضة منذ سنين هو رحيل الراعي الذي كان يحوطني برعايته وأنا أشرح له أهدافي، وقد ساندني لتحقيقها إلى آخر لحظة؛ لأنه كان يؤمن أنه لا نجاح إلا ببناء العقل والقيم. هذه الرعاية في هذا الجانب يفوقها جانب آخر وهو حرصه على كل خير يصيب هذه المنطقة، وعندما ترسخت لدي فكرة ضرورة وجود منشأة رياضية تخدم الشباب كانت الميزانية وقتها تعاني شحًّا نتيجة أزمات تعرض لها البلد، وتحققها آنذاك كان ضربا من الأحلام؛ لكني أؤمن أنه لاشيء يصعب تحققه، أتيت لسموه -يرحمه الله- فحدثته عن هذه الضرورة، وكان يستمع بأبوة حانية، لكن الغريب أنه عندما ينفض المجلس تتناوبني شخصيتان إن صادفتهما في ذلك اليوم، لا أصل إلى بوابة الخروج من قصر الإمارة إلا وهما يجودان تبرعا لي بأحاديث الإحباط، ويزعمان أن الأمير لا يقف في هذا الموضوع وأن حديثي مجرد عناء، وأن المدينة لم تأت وقت الطفرة فكيف تأت الآن -على حد تعبيرهما- وهذا خلاف ما يكون في مجلس سموه فلغتهما هناك مختلفة، وبعدما تكررت مواقفهما كتبت قصيدة في الثناء على الأمير وعرضت بهما وأحرجتهما في أبيات مثل: اليا قلت شعر بسيدي صفقوا له من اشك في قلبه تكفيني يديه صفقا لحظتها ثم يئسا مني بعدها وواصلت عرض مشروعي على سموه، وكان محل اهتمامه بل كان الأمر خلاف ما قاله المرجفان، كانت قضية المدينةالرياضية ذات أولوية عنده. وأذكر أن الشيخ حميد بن مطر -مدير مكتب العمل سابقا- قال لي مرة مطمئنا: «إن سمو الأمير لا تكاد تمر مناسبة إلا ويتحدث عن المدينةالرياضية ويطالب بها، فاطمئن، إن سموه رجل خير ولا يسير في أمر إلا ويتحقق -بإذن الله- وهي الآن والطريق الدولي من أولى اهتماماته.. انتظرت بعد هذا الكلام المطمئن فترة، ومرة أخرى داهمني اليأس من وعود الرئاسة المؤجلة، وهنا كان مولد القصيدة الأخيرة بهذه المناسبة، ولأنني أعلم نخوة سموه وإنسانيته وحلمه على من يطالب بمصلحة وطنية، وإن كان ثقيلاً -كما كنت لحظتها- لذلك قررت أن أخاطب إنسانيته وأستفز نخوةً لا حدود لنبلها، وبهذا كانت القصيدة هذه المرة شكوى صريحة، ونشيجا حاراً، وعتباً صريحا على بعض الجهات المتسببة بالتأخير، وقد خشيت تبعات هذه القصيدة، فاخترت أن أزوره بعد الظهر في مكتبه وأنشده، إذ كان هذا الوقت أخف أوقات المراجعين، ورأيت إن نالني عقاب أو عتاب ألا أكون لحظتها في مشهد من الناس، مع أنني أعرف احترام سموه للأهداف النبيلة، ومطلع القصيدة دال على مشاعر ذلك الموقف القلق: جيتك أعد خطاي ما أدري عن الغيب!! في موقفي ما بين طيبة وهيبة يا سيدي للنفس مالي مطاليب ومثلك اليا ضاقت بنا ننتخي به عشرين عام ورقمنا بالدواليب وبعض الحقائق لو نسولف مصيبة ومع كل بيت كان -يرحمه الله- يتابع، ثم أطرق إطراقة هيبة خشيت ما بعدها، ثم أكملت بلغة آملة: يا سيدي طالت علينا المراقيب وحكاية الميعاد معنا عجيبة جيراننا شربوا خيار المشاريب وحنا ظمانا ما يداوى لهيبه ويوم أرهقتنا سافرات الأساليب قلنا بأبو خالد تفك الصعيبة اللي مسك من حبل عطفه مقاضيب بالخير يبشر والسعد يهتني به يا سيدي وراي ناس ومطاليب حثوا خطاي وسيدي ينهقي به إما أنت تطردني وأقفِّي ولا أجيب مكسور!!وإلا قلت سعدى نصيبه آخر كلامي يا رفيع المجاذيب شف هقوتي بك كبر نجد الرحيبة وعندما انتهيت من إلقاء القصيدة، نظر إليَّ، وقال كلاماً لم أسمع بأنبل منه، كلاما يدل على أن ولاتنا الكرام في هذه الدولة الرشيدة نهلوا أساليب الحكم السامي والإخلاص وحبَّ الناس ولطف التعامل مع شعبهم، ووضع الأمور مواضعها، منذ نعومة أظفارهم، وهذا سرّ تألق هذه الدولة العادلة -رعاها الله-.. ذهب القلق الذي كان يحاصرني -لحظتها- وعدت مبتهجا، أبشر الرياضيين بما قال والدهم، وبعد أشهر معدودة، ومع واحد من الصباحات الجميلة رنَّ جوالي، وإذا الاتصال من إمارة المنطقة، يبلغني بأن سمو الأمير يطلب مني حضور لقاء في مكتبه مع صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن فهد الرئيس العام لرعاية الشباب، وفي هذا اللقاء ألحَّ سموه بالمطالبة وبحاجة المنطقة وأبنائها، وتأخر المشروع طويلاً، وكانت استجابة الأمير سلطان بن فهد مبهجة، إذ وعد بإقرار المشروع، بل زاد قائلا: إن سموكم سيضع -بإذن الله- حجر الأساس بعد أشهر معدودة، وابتهجنا جميعاً -أعني كل من حضر لقاء الأميرين الكريمين وسمع هذا الوعد-، وبعد سماعي هذه البشرى الجميلة اتصلت مباشرة بالأستاذ عبدالرحمن الشويمان مدير مكتب رعاية الشباب بالمنطقة، أبشره بهذا الخبر السارّ، وكانت مفاجأة سعيدة له، ثم زفيت الخبر ساعتها لكل رؤساء أندية المنطقة ورياضييها، وكان بالفعل خبراً سعيداً، وبعد أيام قليلة زفت وكالة الأنباء السعودية صدور المرسوم الملكي بإنشاء هذه المدينة التي كان مخططها -لحظتها- أكثر من واقعها الحالي بكثير، وبعد وضع حجر الأساس الذي لم أحضره، لظرف خاص، رنَّ جوالي مرة أخرى، وأبلغت بطلب الأمير زيارته، وأتيت إلى مجلس سموه فعلمت أنه سأل أثناء الحفل عن سبب عدم حضوري، وفي المساء أراد التأكد من السبب، اطمئناناً ألا أكون قد مررت بظرف قاهر، وفي ذلك دلالة على أن سموه لا ينسى، بل يقدر كل من يسعى في مصلحة من مصالح بلده، وتكرر قريبا من ذلك عند مطالبتي بالنادي الأدبي رغم الأصوات التي كانت تنطلق من بعض الحاضرين: ياطويل العمر، مانجحت الأندية الأدبية في البلدة الفلانية!!. ومن مواقف سموه أنه قد حدثنا في مجلسه مداعبا: اليوم أنشأنا بئر ماء في الاستراحة رغم أننا لا نحتاج إلا القليل لكن خشيت لو أمرت بمد أنابيب ماء من بئر مجاور وتعطل مرة قال الناس: الأمير سحب الماء، قالها وهو يضحك ثم أقسم أنه ما اقترب من مال مواطن قط في حياته، وأن والده قد أوصاه بثلاث وصايا ما أخلف واحدة منها، منها ما ذكر ومنها تقدير الدين ورجاله.. وأشار إلى نعمة الله عليه وختم حديثه مازحا: لست فقط أنت يا صغيّر من يكتب الشعر أنا قلت بهذا شبه هجينية: أنا أحمد الله عطاني خير فضلٌ كثير بلا منة. وأذكر يوما أنه تحدث بامتعاض شديد عن مخاطبة أحد الوزراء للإمارة لإلزام عمال إحدى المؤسسات على العمل بعد أن أضربوا عن عملهم لتأخر رواتبهم، وعدم عملهم يترتب عليه أضرار أخرى، فقال للوزير -وأنقل اللهجة نفسها-: "معصي"، مؤكدا أنه لن يشارك في تحمل ذنب هذه العمالة، وكان يتساءل باستغراب: كيف يقدر الإنسان ينام وهو يحرم الضعاف من رواتبهم ويتركهم شهورا على هذه الحال؟ واختصاراً: هذا هو الوالد الأمير الإنسان أمير منطقة الحدود الشمالية، وهذه بعض مواقفه، وهذا غيض من فيض من مواقف جليلة جعلتنا نحبه ونقدره، وندين له بالشيء الكثير، أسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة ويثيبه على كل ما قدمه من أعمال فاضلة الأمير منصور بن عبدالله بن مساعد: نموذج للإنسانية الرائعة التي نذرت نفسها لفعل الخير، متواضع، جم الأدب، يفرح بفعل المعروف أو السعي فيه، لا يتأخر عن عمل خير أو صناعة موقف كريم.. كم لك علينا من أياد بيضاء يا أبا عبدالعزيز، وكم أنا مقصر معك أيها النبيل. * مدير مكتب جريدة "الرياض" بمنطقة الحدود الشمالية