نزل الإسلام، بوصفه خاتمة للأديان كلها، رحمة للعالمين كلهم: أحمرهم وأبيضهم وأسودهم، من اتبعه ومن لم يتبعه، وهذا سر عظمته وعالميته. يقول الله تعالى لنبيه الكريم:"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، أي للخلق كلهم، وليس للمسلمين فقط. وفي هذا المعنى يقول الإمام الطبري عند تفسيره لهذه الآية، بعد أن استعرض التأويلات الواردة في معناها،:"وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي روي عن ابن عباس، وهو أن الله أرسل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع العالم، مؤمنهم وكافرهم. فأما مؤمنهم فإن الله هداه به وأدخله بالإيمان به وبالعمل بما جاء من عند الله الجنة، وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذبة رسلها من قبله". هذا التفسير من قبل إمام المفسرين ينقض الأساس الذي يعتمد عليه المتطرفون والمتشددون والكارهون لمخالفيهم من أن الإسلام رحمة للمسلمين، عذاب على الكافرين. ما أحوجنا في هذه الأيام المدلهمة، وأمتنا تمر بعصر من أسوأ عصورها، حيث الطائفية البغيضة، وحيث التكفير المتبادل، وحيث الجماعات الجهادية التي تتخذ العنف منهجاً وسبيلاً، أن نعيد إلى الإسلام وجهه القرآني النبوي النضر ولقد يستحوذ على المسلم الأسى والحزن، ويتفطر قلبه كمدا، حين يعلم أن هذه الصورة، صورة الرحمة للمسلمين والعذاب للكافرين، هي التي انبثت في الخطاب المعاصر، وأكدتها الأفعال المشينة المروعة للجماعات المتشددة، التي تفجر وتقتل وتبقر البطون، وتيتم الأطفال وترمل النساء، اتكاء على تفسير سياسي للإسلام، نقله من كونه رحمة للعالمين كلهم، إلى كونه رحمة خاصة بمن آمنوا به. وتعظم المصيبة، وتشتد الرزية حين يختلف المسلمون على كنه الطائفة المؤمنة حقاً، والتي نزل الإسلام رحمة لها، ومن ثم يقتتلون على هوية طائفية تتساءل سؤالاً أبدياً لا جواب عليه إلى يوم الدين: من هي الفرقة الناجية الوحيدة التي ستدخل الجنة من بين الاثنتين وسبعين التي ستدخل النار؟ وفي هذا السياق، سياق نزول الإسلام رحمة بالناس أجمعين، ينقل الإمام الطبري أيضاً تفسير الحسن البصري لقوله تعالى:" وقولوا للناس حسنا"، بأنه يعني" لين القول من الأدب الحسن الجميل والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله وأحبه"، وبأن هذا الحُسْن، وفقاً للطبري، للناس كلهم. وهو ما يتفق تماماً مع مضمون الآية السابقة من إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين. إن من أبرز مظاهر عالمية الإسلام، كونه لم يكره أحداً على اعتناقه، فمن شاء فليتبعه، ومن لا يريده فهو غني عنه بمبادئه وقيمه ومعاييره الإنسانية الرائعة. يفسر الإمام ابن كثير قوله تعالى:"لا إكراه في الدين"، بقوله:" أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلية دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكرَه أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسوراً. ثم ذكر سبب نزول هذه الآية بأنها:" نزلت في رجل من الأنصار، من بني سالم بن عوف يقال له الحصيني، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلاً مسلماً، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه تلك الآية". ولا أظن أننا نأتي بجديد إذا قلنا إن الأساس الذي تتكئ عليه اليوم الجماعات الجهادية المسيسة في ما تمارسه من قتل وترويع وتهجير وسبي للنساء، إنما يمتح من فهمهم المعوج بوجوب فرض الإسلام بالقوة على غير المسلمين. صحيح أن معظمها، إن لم يكن كلها، إنما تتذرع بهذا التأويل للوصول إلى مآربها السياسية، إلا أن قطع السرة مع هذا التأويل المجانب للصواب يجعلهم مكشوفين في العراء فلا يغتر بهم حدثاء الأسنان، ومن لم يؤتوا حظاً من العلم. عندما يُقدم الإسلام بصورته الإنسانية الرحيمة فإنه لا يلبث أن يؤثر سريعاً على قلوب الناس، فإما أن يتبعوه، وإما أن يشيدوا بمبادئه العظام. يقول (بريشا بنكمرت)، وهو أحد البوذيين الذين اعتنقوا الإسلام:" إن دين الإسلام هو دين الحرية والمساواة والإخاء والكرامة والعزة، ويظهر ذلك جلياً في أحكامه ومبادئه وآدابه". وتقول الدكتورة( لورافيشيا فاغليري):" إن الناس في حاجة إلى دين، ولكنهم يريدون من هذا الدين في الوقت نفسه أن يلبي حاجاتهم، وألا يكون قريباً إلى عواطفهم فحسب، بل أن يقدم إليهم أيضاً الطمأنينة والسلامة في الحياة. والواقع أن الإسلام يفي بهذه المطالب على الوجه الأكمل. إنه يعلم التفكير الصائب والعمل الصالح والكلام الصادق. وهو بهذه الأسباب يتخذ سبيله إلى عقل الإنسان وقلبه في غير عسر". ويقول(هنري دي كاستري):" قرأت التاريخ، فكان رأيي بعد ذلك أن معاملة المسلمين للمسيحيين تدل على ترفع في المعاشرة عن الغلظة، وعلى حسن مسايرة ولطف ومجاملة. وهو إحساس لم يشاهد في غير المسلمين آنذاك". ثم يقول :"وأمامنا أمر آخر ينبغي الوقوف عنده، وهو أن ديانة القرآن تمكنت من قلوب جميع الأمم: اليهودية والمسيحية والوثنية في أفريقيا، وفي قسم عظيم من آسيا، حتى إنه وجد في الأندلس من المسيحيين من تركوا دينهم حباً في الإسلام. كل هذا بغير إكراه، وبدون أن يكون للإسلام دعاة وأقوام مخصوصون". تصوروا لو أن الإسلام قُدِّم إلى هؤلاء، سواء منهم من اتبعه، ومن لم يتبعه واكتفى بذكر فضائله وقيمه، من خلال أفعال القاعدة والنصرة وداعش وحزب الله ولواء أبي الفضل العباس وفيلق بدر وجيش محمد، وغيرها من الفصائل الشيعية والسنية، ممن ارتضوا الفتنة، وابتغوا الإرهاب والعنف سبيلاً لبلوغ مراميهم باسم "الإسلام"، أفتكون آراؤهم عنه هكذا من الإعجاب والذكر الحسن، والتواصي باتخاذه ديناً يحفظ كرامة الإنسان في الدنيا، ويعده برضوان الله يوم القيامة؟ ما أحوجنا في هذه الأيام المدلهمة، وأمتنا تمر بعصر من أسوأ عصورها، حيث الطائفية البغيضة، وحيث التكفير المتبادل، وحيث الجماعات الجهادية التي تتخذ العنف منهجاً وسبيلاً، أن نعيد إلى الإسلام وجهه القرآني النبوي النضر، ذلك الوجه الإنساني العالمي الرحيم، الذي دخل الناس قديماً وحديثاً من خلاله في دين الله أفواجاً. لمراسلة الكاتب: [email protected]