إن جذور العنف تكمن في الانحراف الفكري - العقل - عن مراد النص بإسناد الوحي - خصوصاً - في المتشابه منه، فهو المنزلق الأول للفتن والافتراق.. كما قال - تعالى - معللاً أسباب الفتن تارة في مخالفة - تأويل النص -، وقال: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌ من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب}، وطوراً في مخالفة النص..، وهنا يتضح معنى الفتنة التي أشارت إليها الآية.. وقال عز وجل - في آية أخرى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يُصيبهم عذابٌ أليم}. فالفتنة كما قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - الشرك أو البدعة {عذابٌ أليم} قال: قتل أو حد أو حبس.. وهذه إشارة جليلة إلى أن أسباب الفتن تكمن في انحراف التأويل العقلي عن التأويل الشرعي للنص الذي جاء به الوحي.. أو الإعراض عنه.. فالإسلام دين الدليل والدليل هو الإسناد نصاً وفقهاً المتصل بمن أكمل الله عليهم الدين وأتم بهم النعمة.. وقال {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً..} (المائدة). إن الدليل مقام على الوحي في ثلاثة أصول إسنادية.. الأصلان الأولان هما الوحي.. وهما القرآن العظيم، وقال {إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ وما أنا إلا نذير مبين}، {قُل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيدٌ بيني وبينكم وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ..} والثاني: السنة الصحيحة.. وقال {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يُوحى}. والأصل الثالث: هو الإسناد الفقهي لنصي الكتاب والسنة.. اللذين أقرهما الوحي وقت التنزيل.. وهو فهم الصحابة لمراد النصوص.. فجميع الفرق والطوائف تدعي أنها على الدليل من الكتاب والسنة ومع ذلك لا يملكون آلية التأويل المستقيمة.. لأنهم لا يدعون - البتة - أنهم على سبيل الصحابة.. إلا طائفة واحدة.. هي طائفة التفصيل الذي أقرَّ الوحي تأويله.. وترفع إسنادها الفقهي للصحابة.. فالإسلام دين الدليل.. والطائفة المنصورة طائفة التفصيل.. وهذا معترك الافتراق في الإسلام.. وانحراف الطوائف.. حيث وقعوا في مجمل النص ولم يراعوا التفصيل الفقهي له من أسانيد الصحابة.. إنهم يعتقدون أن الإسناد - الفقهي - المعاصر يُقدَّم على إسناد الصحابة في تأويل المتشابه منه.. فالصحابة رجال وهم رجال.. من هنا ضلت الطوائف وأشعلت العنف والفتن كما هي حال الخوارج في نزاعهم للصحابة.. فظنوا أن تأويل الصحابة غير سائغ فهلكوا.. لأن تأويل الصحابة هو الأصل الثالث للإسناد وهو من خصائص الإسالم، كما قال - تعالى - {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} (البقرة)، وهذه جملة شرطية تحقيق الهداية في المثلية.. والمخاطبون فيها هم الصحابة الذين نزلت عليهم خصوصاً في المتشابه.. والتصريح بالشرط جاء في آية أخرى وقال: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} (التوبة) فجعل المتابعة لهم شرطاً لنيل الرضا.. وسبيلاً للخلاص والنجاة لذلك سموا هم واتباعهم بالفرقة الناجية.. في حديث الافتراق.. وتوعد الله من خالف سبيلهم بالهلاك.. كما قال تعالى : {ومن يُشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} (النساء). فإذا عرفنا أن انحراف التأويل هو السبب الرئيس للفتن.. فإن وحدة التأويل هي من عوامل الاجتماع واستقرار المجتمعات كما في الحديث الذي رواه مسلم وغيره..، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله يرضى لكم ثلاثاً.. أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا وأن تناصحوا ولاة أموركم..} فأشار الحديث إلى عوامل الاجتماع الثلاثة توحيد الله الخالص من البدع.. ووحدة التأويل بما كان عليه الجماعة ومناصحة ولاة الأمر.. وقال في حديث الفرق الذي رواه الإمام الطبري.. وهو من أ صح الطرق لهذا الحديث.. أن يزيد الرقاشي حدثه أنه سمع أنس بن مالك، قال: قال رسول الله: «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة، قال فقيل: يا رسول الله وما هذه الواحدة!، قال فقبض يده وقال الجماعة {واعتمصوا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}، ، التفسير، وإسناده صحيح، ج4 ص32 - وتضعيف د. القرضاوي لجميع طرق هذا الحديث - باطل ! - فهذه احدى طرقه الصحيحة.. علماً أن علوم الحديث ليست من بضاعته!، والشاهد من الواقع للفرق والافتراق - الإخوان المسلمون - الذين ينتمي إليهم.. فهم فرق ويكتلون الغث وليس فيهم السمين!) وذكر ابن عبدالبر - أيضاً - المعنى الصحيح للجماعة وأنها حبل الله..، فيما رواه - رحمه الله - في (التمهيد ج21 ص372): وبإسناد صحيح عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنهما - أنه قال في تسير قوله - تعالى - {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}، قال حبل الله الجماعة.. وقال عبدالله بن مسعود في خطبته: «أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله، الذي أمر به وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة» ا. ه (التمهيد ج 21 ص 276)، ورواه الطبري في التفسير ج 4 ص 31).، فهذان الإسنادان.. النصي لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأثري الفقهي لهذا الصحابي الجليل.. يفسران معنى الجماعة المستقيم. فالمراد من معنى الجماعة ليست الجماعة الاجتماعية وإنما المراد منها الجماعة الفقهية المتوحدة على سبيل واحد في الفهم لتأويل النص المحكم منه والمتشابه.. والطاعة لأوامره، حيث كان نزول الوحي فهم الذين عرفوا مراد فقهه بإقرار الرسول لهم.. كما بيَّن ذلك الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى - وقال: «فقرن - عليه الصلاة والسلام - كما ترى سنة الخلفاء الراشدين بسنته، وأن من اتباع سنته اتباع سننهم، وأن المحدثات خلاف ذلك، وليست منها في شيء، لأنهم - رضي الله عنهم - فيما سنوا: إما متبعون لسنة نبيهم - عليه السلام - نفسها، وإما متبعون لما فهموا من سنته - صلى الله عليه وسلم -، وفي الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثله، لا زائدة على ذلك» ا. ه (الاعتصام). فقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: الفرقة.. «أي: التفرَّق في الفقه والتأويل..، وإذا اختلفوا فيهما تفرقوا إلى شيع وأحزاب.. فحدد معناها من السياق نفسه بقوله: وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون..» ويعني - فقه الجماعة - وهم الصحابة، وهذا معنى قوله الجماعة - رضي الله عنه - حيث يفسره قوله الآخر: «الجماعة أن تكون على الحق، ولو كنت وحدك» أي أن تكون على مثل ما كان عليه الرسول وأصحابه ولا يتعدى هذا المعنى البتة في هذه المسألة ونحوها. فالذي تشهده بلاد المسلمين من عنف من قبل الجماعات سببه انحراف التأويل عما كان عليه الجماعة الأولى في الفقه والذي أقرَّه الوحي.. فانحرفوا عن عوامل الاجتماع الثلاثة.. التوحيد المستقيم لله عز وجل - حيث جعلوا الحاكمية نوعاً رابعاً من أنواع التوحيد كما تدعي القطبية.. فأوجد لديهم نقصاً في توحيد الإلهية، حيث إن الحاكمية هي جزء منه وليست نوعاً رابعاً منه.. وذلك بسبب تقديمهم فكر سيد قطب - العقلي -.. على تأويل الصحابة.. فصرفوا وجوه الخلق عن ما يهم من معرفة التوحيد الخالص.. كنبذ التعلق بالأضرحة وجعلها مساجد.. وبلادهم تنضح بها.. فوقعوا في العنف والفرقة والفتن.. لذلك تجد أن غالب رؤوس هذه الجماعات ينتهي بهم الأمر إلى القتل أو الحبس أو النفي.. لسبب نزاعهم الأمر أهله - ولاة أمر المسلمين - باسم الحاكمية.. فجروا الفتن إلى مجتمعاتهم.. وهذا ما بيَّنه الحديث الصحيح - آنف الذكر - وحذَّر منه في معنى وحدة التأويل كأصل للاجتماع.. وفي حديث آخر أشار إلى إحاطة دعوة الجماعة الأولى لكل المسائل فقهاً.. كما قال - عليه الصلاة والسلام -: «ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمر ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم».. قوله ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم أي لا يكون القلب المعتقد لهن غليلاً.. هذه أسباب العنف في الاستقراء الفقهي على منهج السلف الصالح.. وهو الانحراف الفكري عن سبيل الفهم الشرعي.