يقول الله تعالى في بدايات سورة الإنسان: «إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً إنا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً»، ثم يختمها بقوله: «إنّ هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله إنّ الله كان عليماً حكيماً»، وهكذا أقر الله حرية الاعتقاد، حيث إنه تعالى خلق الإنسان، وأنعم عليه بالعقل ومعه القدرة على التمييز، أم كيف يكون حساب العاقل البالغ إن لم يُهد النجدين؟ فإما الإيمان أو الكفر، هكذا ترك الله للإنسان حرية الاختيار، وهي حرية الاعتقاد التي أكد الله عليها في قوله تعالى: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي...»، فماذا يروي ابن عباس في تفسير آية سورة البقرة؟ يقول ابن عباس: «نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو مسلم، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ألا استكرههما، فإنهما قد أبيا إلاّ النصرانية، فأنزل الله هذه الآية»، يقول الزمخشري في تفسيرها: «لا إكراه في الدين: أي لم يَجْرِ الله أمر الإيمان على الإجبار والقصر، ولكن على التمكين والاختيار، ونحوه قوله تعالى: «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»، أي لو شاء لقسرهم على الإيمان، ولكنه لم يفعل وبنى الأمر على الاختيار». فهل استوعبنا وضع الأب الأنصاري؟ فما أصعب موقفه وسط جماعته وصحابة رسول الله! وكيف اختلطت عليه مشاعره وهو يحكي لنبي الأمة عليه الصلاة والسلام وألم ابنيه يعتصر قلبه وعقله، ومع هذا كله لم يزد نبي الرحمة إلاّ أن ذكّر الرجل بآيات الله، فإنك لا تهدي من أحببت، كما أنك لا تملك أن تُكره في الدين، وهذا هو الموقف الأصيل للإسلام أمام من يخسر دين الفطرة بملء عقله وإرادته. فإن أثيرت مسألة الردة، وكانت تعني منذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام خيانة الإسلام كمجتمع وكدولة، فكيف يستقيم إذاً ألا يُكره المرء في الدين وأن يُحارب المرتد؟ نعم لقد تجنّد أبو بكر الصديق رضوان الله عليه لقتال المرتدين، ولكن المرتد فيهم كان في حكم المحارب، أي الخارج على المجتمع الإسلامي بقطع الطرق والإخلال بالأمن ونهب الأموال، ولذلك ربط فقهاء الأمة بين المرتد والمحارب في الأحكام، فماذا عن المرتد بالمعنى الضيق؟ قيل في تفسيره إنه من اعتنق الإسلام ثم عدل عنه، من دون أن يعادي الدين، أو يلحق الضرر بأهله، وقد وردت في حقه آيات كثيرة ليس من ضمنها ما ينص على قتله، فيكفي أن عليه ما هو أعظم من القتل الذي قد يوفِّر عليه العذاب، فهذا المرتد عليه غضب الله ولعنته، غير جهنم ومصيره فيها، يقول تعالى: «... ومن يرتدِدْ منكم عن دينه فيمُت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»، وقوله عز وجل في سورة النحل: «من كفر بالله من بعد إيمانه إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم»، فما أعظم خالقنا وأرحمه حتى على المرتد، فبابه تعالى بالتوبة مفتوح دائماً. يقول تعالى: «ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه»، ويقصد بالإسلام دين التوحيد بالإطلاق، وهو دين أبو الأنبياء إبراهيم الخليل كما يدل عليه سياق الآية، وكما أجمع المفسرون، فعلى رسْلنا ومهلنا ونحن نصدر أحكامنا، فهذا ربنا وهذه آياته، فلا داعي للمزايدة ولا للأحكام المغلوطة، وكلما جئنا على سيرة الآخر وصفناه بالكافر، وقد يكون كافراً فما علينا منه! ولنتخيّل أن أباً مسلماً في أيامنا ويبتلى بأبناء ليسوا على دينه، لمثل هذا الأب أجاب نبي الإسلام أن لا إكراه في الدين، فإن تنصّر أربعون جزائرياً أسبوعياً وحتى يومياً، أو ارتدت الفتاة أو ارتد الفتى فلن يضروا الإسلام في شيء ولكنهم حتماً ما سيضرون أنفسهم في الحياة وبعد الحياة، وهذا أبشع عقاب لهم من الله. [email protected]