ليس هناك أخطر على وحدة النسيج الاجتماعي لأي شعب من الشعوب من إثارة النزعات المناطقية والجهوية والمذهبية، كونها أفتك سلاح لتفتيت وحدة الشعوب وإشغالها بقضايا لا تخدم وحدتها الوطنية، وأوضح دليل على ذلك ما تشهده اليمن من تفكك في نسيجها الاجتماعي وخاصة في الظروف الحالية التي تحمل معها مخاطر جمة تهدد بإشعال حرب أهلية طاحنة لن تبقي ولن تذر، في ظل الفرز المناطقي الذي تشهده البلاد حالياً على المستوى الرسمي والحزبي والذي أضحى سلوكاً ومفهوماً سياسياً في أجندة بعض القوى السياسية، وصار أكثر حضوراً في المشهد السياسي وفي خارطة الصراعات السياسية التي فرضت نفسها في الواقع بسرعة كبيرة وبأبعاد تفكيكية وجغرافية اجتماعية سياسية اقتصادية عميقة، فالممارسات المناطقية في الظروف الراهنة تتجاوز الانتهازية السياسية المعهودة التي كان البعض يلجأ إليها ويلعب بورقتها للظفر بحصة من المغانم السياسية بمعزل عن كل الاعتبارات الوطنية.. واستفحال مثل هذه النزعات المناطقية بمظاهرها وشعاراتها وأساليبها ومحركاتها الاجتماعية والسياسية والفكرية تمثل أحد مظاهر الارتكاسة الارتدادية للمذهب السياسي الذي أنتج واقعاً غير مفهوم من الكيانات الوطنية الاجتماعية والجغرافية التصادمية على أساس من الفرز والتقسيم العقدي المذهبي المتطرف، الذي ظهر إلى الوجود كحالة من حالات الصراع على السلطة، وقاد بدوره إلى خلق ثقافات وقناعات وشعارات ومشروعات مناطقية أشد خطرا ما كان لها أن تبرز إلى الوجود لولا سلوك بعض النخب السياسية التي عملت على إشاعة الفوضى العارمة مستغلة ضعف الدولة وراهنت على استخدام الورقة الدينية المذهبية والمناطقية والمليشيات القبلية لتحقيق مكاسب سياسية وفرض خيارات الأمر الواقع عن طريق القوة، الأمر الذي عزز من حالة الفرز الجهوي والمذهبي التصادمي، والزج بالبلد في حرب طاحنة دمرت كل المقدرات والبنى التحتية وتسببت في إزهاق أرواح المئات من المواطنين الأبرياء، وقبل ذلك دمرت النفوس وأشاعت الخوف والرعب بين الناس، وفرضت على كثير من المواطنين وأسرهم النزوح من مدنهم ومناطقهم التي شملتها الأعمال الحربية للنجاة بأنفسهم، بينما عامة اليمنيين يبتهلون إلى الله أن يسبغ عليهم نعمة الأمن والسلام، رغماً عن نوايا بعض الأحزاب والتنظيمات والمكونات السياسية والاجتماعية التي تحوّل بعض قادتها إلى أمراء حرب ومتاجرين بدماء الأبرياء وبمقدرات الوطن من أجل الحصول على المزيد من المكاسب، لأنهم لم تعد لديهم أي هم سوى إغراق البلد في مستنقع المناطقية والطائفية والمذهبية النتنة ضماناً لبقاء مصالح أحزابهم، في الوقت الذي لازال فيه البعض مستمراً في عناده لتدمير ما بقي في الوطن من مقدرات، غير جادين في البحث عن خيارات ومصالحات واقعية تجنب البلاد المزيد من تدهور الأوضاع وبما يضع حداً للحرب العبثية الدائرة التي ليس لها أي هدف، والابتعاد عن استخدام القوة والسلاح، واللجوء إلى الحوار سبيلاً لحل الخلافات والقبول بالشراكة، بينما لازالت قناعة بعض الأطراف السياسية التي استولت على الدولة والثروة بعد عام 2011 مكبلة بأرث الماضي وأمراضه وثاراته السياسية، وكذلك هي مشروعاتها السياسية مرتهنة لحسابات ماضوية أكثر من امتلاكها لرؤية وطنية استراتيجية مستقبلية، الأمر الذي جعل من هذه القوى مصدراً لإشكالات وأزمات جديدة أكثر من كونها أدوات للحل السليم للوضع المعقد والمأزوم. النخب السياسية اليمنية تتحمل أكثر من غيرها مسؤولية ما يحصل اليوم من فوضى وتدهور كلي للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبروز المليشيات المناطقية والقبلية واحتلال مؤسسات الدولة والترويج السياسي الإعلامي المتواصل لمشاعر وثقافة الحقد والكراهية والنعرات العصبوية الحاملة في مضامينها وأهدافها معاول هدم وتفتيت النسيج الاجتماعي والكيان الوطني في أثواب جديدة تختلف شعاراتها وأدواتها ودوافعها من منطقة جغرافية إلى أخرى.. البعض ما برح يسوّقها تحت شعار الأقاليم أو حق تقرير المصير، أو الفيدرالية أو تجاوز واقع التهميش السياسي والظلم الاجتماعي والاقتصادي في تناقض صارخ مع المبادئ والشعارات السياسية للدولة المدنية الحديثة، والمطالب الحقوقية المشروعة. النزعات العصبوية والمذهبية والجهوية والمناطقية والحزبية، التي سبق أن امتهنها البعض تاريخياً كشعارات وأوراق ابتزاز وضغط سياسية وجسر عبور للوصول إلى الثروة والسلطة والجاه بوسائل غير مشروعة أضحت اليوم مع الأسف هدفاً رئيسياً لبعض الأحزاب تريد أن تشكل به المشهد السياسي وتوازناته وصراعاته بأبعادها ووسائلها غير الوطنية وغير الديمقراطية وغير السلمية وتحمل في أحشائها المزيد من عوامل مصادر بؤس الوطن ودماره وانهياره.