العقول النابغة والمبدعة في كافة مجالات الحياة هي أحد أركان ذلك المكتسب والمنجز الحضاري المعرفي الذي تحقق في هذه البلاد كواحد من مخرجات المنظومة التعليمية والتربوية، إلى مراحل التعليم الجامعي والمراكز البحثية وما تبع ذلك من فرص بعثات التحصيل العلمي في جميع مواطن العلم والمعرفة في جميع أقطار العالم، هذه العقول الوطنية المتميزة المهاجرة للعمل والبحث عن المزيد من فرص تكريس المعرفة، تسربت نحو أفق العولمة بعيداً عن نطاقات الاحتواء تاركة وراءها علامة استفهام ربما اتضحت بعض جوانبها وخفي منها جوانب أخرى أو ربما تكون تلك الهجرات بداع قسري -اجتماعياً- أو لرغبة في تحقيق فرص البحث والتطوير واستثمار ما يوجد في تلك الدول التي احتضنت تلك العقول من مقومات النجاح، مع ما يرافق ذلك من وفرة في فرص العمل المتوازنة مع قدرات وإمكانيات تلك المواهب، يعزز ذلك الإقبال على استثمار القدرات الشخصية للمتميزين والنابغين في كافة المجالات. وفي هذا الإطار فإن هجرة العقول النادرة والنابغة إلى محاضن العلم والإبداع الخلاّقة تعاني منها الكثير من الدول النامية في جميع قارات العالم لعدم تحقق ذلك التكافؤ بين وفرة الإمكانيات والقدرات الفردية لتلك العقول مع البيئة العملية والاجتماعية في تلك الدول التي ربما يكون لديها قناعات بقبول تلك الهجرة لعقولها المتميزة بسبب عدم وجود أهداف وخطط وبيئة علمية تكاملية تستحوذ على هذه العقول، بمعنى أن تلك العقول ربما تفوق إمكانيات وقدرات تلك الدول وبالتالي تبادلها حكوماتها قبول هجرتها. لكن واقع المملكة وهي دولة تجاوزت فكر منظومة دول العالم الثالث في المجال الاقتصادي والخدمات الإلكترونية، إلا أن الطموحات لم تتقدم إلى الأمام لتقفز بهذه المكتسبات لتنعكس على جميع القطاعات وتسهم في تطوير المنظومات الأخرى ومنها إلى محاكاة أفضل الدول النامية وإن لم تتربع على هذا المصطلح في كافة جوانب التنمية إلا أنها في الواقع من الممكن تصنيفها بالدولة التي تنافس الدول المتقدمة في اقتناء أدوات التقنية واستثمارها في المجالات الهندسية والطبية والتقنية وعلوم الفضاء والعلوم الإنسانية مما جعلها بيئة حاضنة ومستثمرة لقدرات الكثير من العقول من كافة أقطار العالم عوضاً عن ضرورة استثمار تلك العقول الوطنية المهاجرة. عوامل متعددة وحول أسباب هجرة المبدعين والعقول وأصحاب الشهادات العليا والتخصصات لنادرة إلى الخارج قال"خالد اليحيا" - محامٍ ومستشار قانوني-: "لابد أولاً من وجود معرفة إحصائية للاطلاع وإدراك حجم الظاهرة حتى يمكن اعتبارها في الحدود الطبيعية أو خلاف ذلك"، مضيفاً بأن هجرة المبدعين وأصحاب التخصصات العليا والنادرة إلى الدول الأوروبية والأجنبية بشكل عام تعود إلى عدة أسباب وعوامل، لاسيما ونحن بيئة جاذبة اقتصادياً، والجاذبية الاجتماعية والثقافية قد تكون أقل من الجاذبية الاقتصادية لدينا كما أن البيروقراطية الإدارية هنا وفي معظم الدول الأقل نموا تعتبر أحد أكبر معوقات الإبداع وأداء الأعمال". وأشار الى أن"هناك مصطلحا يطلق عليه جاذبية الوسط العلمي، ومعروف أن هذه الجاذبية مزدهرة وفعالة في الدول المتقدمة، حيث الحرية الاقتصادية وكثرة مراكز الأبحاث التي تدفع للباحثين والعلماء للتفرغ لأبحاثهم، مما يجعل المناخ العلمي والاجتماعي والاقتصادي لديهم أحد أهم العوامل الجاذبة للعقول المبدعة، ويدفع العقول إلى التدفق على هذه الدول، عندما لا يجدون المناخ العلمي والاجتماعي المشجع لدينا، وبالتالي نجد أن الدول المتقدمة تثري من وراء هذه العقول المبدعة وترفع من قيمتها الإنتاجية دون تحمل أي كلفة عليهم، وهي خسارة تنموية ندفع ثمنها غالياً ومكسب معرفي كبير للدول الجاذبة، فهذه الدول توفر من دخلها القومي آلاف الملايين من الدولارات عندما تجتذب المبدعين، ونحن نخسر الكثير لخسارة المبدعين، وهذا الأمر ينعكس على جميع براءات الاختراع العلمي الصادرة من هذه الدول، والتقارير تشير إلى قرابة 50%من براءات الاختراع في العالم من نصيب (أوروبا وأمريكا الشمالية واليابان) وهذا بحسب مصادر( اليونسكو)". دوافع الهجرة وقال"اليحيا" : "ان دوافع الهجرة وأسبابها من منطقتنا العربية يرجعها البعض إلى أسباب متعلقة بشروط العمل وامتيازاته وحقوقه، وبعض الباحثين يرجعها إلى ما هو ابعد من ذلك، في محاولة لرصد ظاهرة دولية مرتبطة بتدهور الحياة المدنية وتدني الحقوق السياسية والقانونية، وتردي خدمات المعيشة". مشيراً إلى أن "بعض الدراسات والبحوث لخصت أسباب هجرة المبدعين والعقول إلى مجموعة من العوامل من أهمها: ظاهرة الفساد المتفشية في بعض المجتمعات، وانتهاكات حقوق الإنسان، وغياب الحرية الاجتماعية والسياسية، وعدم تقدير الكفاءات العلمية والسياسية، يضاف إلى ذلك قلة العائد المادي في الدول النامية مقارنة بما يقدم لهذه الكفاءات بالدول المتقدمة، الأمر الذي يساعدهم على الاستقرار هناك، كذلك قلة حجم الانفاق على البحوث العلمية والذي لا يزيد تقريباً عن 5% من حجم الإنفاق العام، هذا إلى جانب البيروقراطية التي قد تؤدي إلى إلحاق أصحاب العقول المبدعة بأعمال تختلف جذرياً عن تخصصاتهم". الاهتمام بالتشريعات ودعا "اليحيا" إلى وجوب إدراك خطورة هذه المشكلة على بلادنا وعلى مستقبل التنمية، ورصد هذا الموضوع ومعالجة أسبابه، وضرورة الاهتمام بالتشريعات التي تساعد على توطين هذه العقول المبدعة، وزيادة الاهتمام بالأبحاث العلمية، مشيراً إلى أن في المجتمعات والدول المتقدمة لا تكاد تجد شركة متوسطة أو كبيرة إلا وفيها إدارة مختصة بالبحوث في مجال تخصصها تنفق عليها ملايين الدولارات، وتقدم هذه الإدارات خلاصة وعصارة أبحاثها وتجاربها إلى الإدارات المختصة لاتخاذ القرارات السليمة تجاه المنتج أو التسويق إلى غير ذلك. وقال "اليحيا": لا شك لدي أن معاناتنا مع هذه المشكلة في المملكة قد يعتبر أقل بكثير من معاناة بعض الدول العربية، لأسباب متعلقة بكوننا بيئة اقتصادية جاذبة، وهذا لا يعني أن نغفل حجم المشكلة والظروف المحيطة بها، بل يجب أن نوفيها حقها من الدراسة والبحث ونعمل على إيجاد البيئة المناسبة لتوطين العقول وتشجيعها، وتشجيع مراكز الأبحاث العلمية والإنسانية، وتصوّر الآن لو فكرت في الترخيص لمركز أبحاث في العلوم الإنسانية حجم العقبات التي ستواجهك في سبيل إخراج هذا المركز إلى الوجود". محفزات قوية وأضاف "اليحيا" بأن انتقال الإنسان من مكان إلى مكان آخر بحثاً عن فرصة أفضل قد يعد طبيعياً، ويساعد الشخص على توسيع خبرته والتعرف على ثقافات أخرى، إلا أن الأمر غير الطبيعي أن يترك الإنسان بلده رغم جاذبيته الاقتصادية بحثاً عن ذاته، وعن بيئة بحث علمي ملاءمة لإمكاناته وهو الموضوع الذي يجب أن نوليه الدراسة الكافية لمعرفة أسبابه، وتشجيع العقول والمبدعين على البقاء في بلدهم لأنهم ثروة وطنية كبيرة علمياً واقتصادياً"، مؤكداً أن "العقل هو طاقة وإبداع فإذا توفرت له البيئة المناسبة من حرية علمية وأكاديمية وفكرية وبقدرته على الانطلاق استطاع تقديم أفضل ما لديه". وقال"اليحيا": "لابد من استشراف مخاطر هجرة العقول المبدعة ودراستها وإيجاد الحلول المناسبة من بيئة عمل وأبحاث، وحلول تشريعية، وتوسيع هامش الحرية العلمية والفكرية لدينا حتى نضمن أن يكون سمننا في دقيقنا". هدف للاستقطاب وقال"د.إبراهيم العمر" -وكيل جامعة القصيم-: "إن من أولى مسلمات تنمية الدول والمجتمعات الاهتمام بالموارد البشرية خاصة منها عالية التأهيل العلمي كعلماء الطبيعة والأطباء والفنيين والمهندسين ورجال القانون والاقتصاد والإدارة، فهذه الفئات تتسابق مختلف دول العالم على استقطابها والاحتفاظ بها، ولا عجب أن تشهد المملكة مثل هذه الظاهرة مع التقدم العلمي فيها وانتشار الجامعات والاستثمار الضخم في الموارد البشرية، وسهولة التواصل بين العلماء والمفكرين وأصحاب الخبرات، مما يجعل بعضاً من أبناء المملكة مادة لاستقطابهم من الخارج سواءً لدول الجوار أو للدول المتقدمة كما كنا نشهده في الدول النامية الأخرى". تحسين البيئة العلمية والقضاء على البيروقراطية الإدارية وتوفير التقنيات الحديثة تحفز المميّزين دراسة الظاهرة وأكد أن ما يهم قوله في هذه المناسبة هو: "أنه يتوجب على الجهات المعنية دراسة هذا الموضوع -كمياً ونوعياً- لمعرفة حجم الظاهرة والتخصصات العلمية التي يستقر بها الحال خارج حدود المملكة والأسباب التي تدعو لذلك، لان هجرة العلماء والأفكار تتم عادة لأسباب مادية تتمثل بالبحث عن فرص دخل أفضل، وأسباب تعود للبحث عن بيئة علمية أفضل، أو لتحسين فرص التعليم والرعاية الصحية للأسرة، وفي أحيان أخرى لأسباب اجتماعية"، داعياً إلى "ضرورة دراسة هذه الظاهرة من جميع أبعادها، ومعرفة ما إذا كانت المملكة مستورداً أو مصدراً صافياً للعقول والخبرات العلمية". وقال: "ورغم اعتقادي بأن المملكة تستقبل وتحتضن عدداً أكبر بكثير من العقول المهاجرة، فإن توجيه الجهد لتحسين فرص البيئة العلمية والعملية كفيل بالحد من الهجرة خارج الحدود للموارد البشرية خاصة المتميزة منها". غياب المتابعة من جانبه أشار "د. خالد الرضيمان" -أستاذ علم النبات بجامعة القصيم- الى "أن أحد أسباب هجرة العقول المتميزة والنابغة هو قلة توفر التقنيات العلمية والأنظمة الداعمة للبحوث العلمية، وكذلك قلة الاهتمام بالنواحي العلمية والاتجاه إلى الجوانب الاقتصادية والإعلامية في المجال البحثي، وغياب المتابعة الجادة عن الأبحاث التطبيقية التي تخدم المجتمع والمشروع العلمي مما يؤدي إلى ضياع مخرجات الأبحاث العلمية التطبيقية"، مؤكداً أن "لهذه الأشياء آثارا سلبية على الباحثين المتميزين الجادين"، مشيراً إلى أن "العقول العلمية السعودية تحصل على عوائد مادية ومعنوية تفوق ما يتوفر في المملكة، وأضاف بأن بعض الدول الخليجية تسهل إجراءات ممارسة الأعمال الصناعية والتقنية والاقتصادية وهذه من الأمور التي تسهم في هجرة العقول إلى البلاد التي تمنح المزيد من المرونة والدافعية لاستثمار الطاقات والخبرات التي تتوفر لدى الأشخاص المتميزين"، ملمحاً إلى أن هناك نوعا من البيروقراطية في الإجراءات الإدارية في الجهات المعنية بالأنشطة والعمل بالمملكة". الإشراف لغير المتخصصين كما ذكر بأن تعيين بعض القيادات الإشرافية على المراكز البحثية في القطاعات الحكومية والشركات الصناعية التقنية المتقدمة يتم أحياناً بعيد عن الأشخاص المتخصصين المتميزين في المجالات الإدارية والتقنية وممن لديهم القدرات القريبة في مجال التخصص، وهذا مما لا يساعد على ارتياح الكثير من الباحثين الجادين للانخراط في مثل هذه المراكز وبالتالي البحث عن مراكز علمية للبحث والتطوير تتوفر فيها الإمكانات المختلفة التي تساعد الباحثين على أداء رسالتهم وإن كان ذلك خارج المملكة، مع ما يتوفر من مغريات مادية ومعنوية ونظامية. كما أشار إلى أن بعض الجهات العلمية والجامعات وبعض الجهات الحكومية وشركات القطاع الخاص في المملكة تستعين بخبرات من الخارج بينما هذه الخبرات المستقدمة من الخارج تتساوى في الإمكانات العلمية مع الخبرات الوطنية وأحياناً تكون أقل منها، وذلك يدفع تلك العقول الوطنية إلى أن تكون مشاركاتها وتواصلها العلمي مع المراكز البحثية الخارجية أكثر من المراكز البحثية الداخلية.