حينما نتابع التجربة الشعرية للشاعر علي الدميني نلمس نزوعه نحو التجريب وتشكيل عالم شعري ينهض على مفارقة المألوف في رؤيته وفي بنيته الشكيلية لغة وإيقاعا وتشكيلا بصريًا، وهذا النزوع نحو التجريب لا يعني الانفلات من قبضة التراث أو نفيه، كلا فالشاعر يتعامل مع التراث تعامل هضم وتمَثُّل، وليس تقليدًا واتباعا. إنه يعيد إنتاج التراث في ضوء وعيٍ يؤمن بأن التراث أساس لكل انطلاقة حداثية بوصفه يشكل تراكما لا تستطيع الذات الاستغناء عنه في أي منعرج من منعرجاتها، لكن هذا التراث لا يعني أن يصبح ثقلاً يعيق حركة الذات ويحول دون التجاوز والإضافة الواعية. وحين نقرأ قصيدة (بدايات) في ديوانه (مثلما نفتح الباب) ص44 نجد أنها تهجس بنزوع التجريب في تشكيل القصيدة حين يقول: سأبدأ من حيثما ترك الناس أحفادهم في "ربيع القرى" يلعبون مع النهر أو ينقشون الحكايا على الصخر أو يقذفون الحجارة بالمنحدر ... هذا النص الموسوم بالبدايات يشكل ملامح الرؤية الدمينية للقصيدة الشعرية هي رؤية تتكئ على الفعل، فعل الأنا التي تحقق حضورها بالفعل (سأبدأ) هو إعلان شعري عن مسار إبداعي يحترف الاختلاف، ينطلق نحو النبع، "من ربيع القرى" من قراءة تفاصيل الحياة. البداية من حيث يكتب النص أحفاده، فالنص يكتب لا يُكَتب، يرسم حياة أحفاده لا يرسمون حياته، هي بداية مختلفة، تؤسس لمفهوم جديد للنص الذي يقود الحياة نحو الكمال والاكتمال، ويجعل النص تمثيلاً وحضورًا موازيًا للحياة. هذا المسار الإبداعي مثلما يتجه نحو الراهن الحياتي فإنه يتجه نحو الذاكرة ذاكرة الإبداع العربي "فيولي وجهه شطر المعجم الجاهلي الذي ينتمي إليه" معجمي فيقوم بغسله، وغسل الخيمة بالضوء، المعجم رمز للغة للإبداع، والخيمة رمز للكينونة، للوطن القصيدة والقصيدة الوطن، والشاعر ينتسب إليهما أو ينسبهما إليه بفعل الإضافة، معجمي/ خيمتي البدوية، كما أن الضوء هنا ضوء إبداعي، ضوء الذات وهي تمارس الفعل لا الانفعال، والحضور لا الاستلاب، ضوء الرؤيا الشعرية التي تجافي التقليد واستهلاك المعجم الشعري، اللغة قوام النص الإبداعي، وهي بيت الكينونة - كما يقال - وحين لا يقول الشاعر "إلا معارًا ومعادًا من لفظنا مكرورا" فإنه يكون قد تنازل عن هويته، إن قيام الشاعر بغسل المعجم الجاهلي والخيمة البدوية بالضوء هو إعادة تشكيل الحياة الإبداعية والحياتية على السواء، الشاعر يفخر بالانتماء للهوية العربية، حيث ينسب المعجم والخيمة للأنا، لكن هذا الاستنساب لا يقتضي التسليم ولا يقضي به إنه استنساب واع يقتضي من المنتسب أن يكون وفيًا لهذا النسب فيغسل عنه ما ران من محمول أثقله على مر العصور، يغسله بالضوء لتعود له نصاعته، وشفافيته، وألقه. هذا الإبداع الجديد يصغي إصغاءً مزدوجًا يصغي للأنا الفردية، ويصغي للمجموع، "أصغي إلي قليلا.. وأصغي إليكم كثيرًا" هو إصغاء ينبثق عن تأثيث جديد للذاكرة "سأبدأ تأثيث ذاكرتي" تأثيثًا يتغيا زراعة جديدة لبيوت من الشعر ما سكها جدي البدوي التليد. هذا التأثيث يعني التفرد، الذي يشكل إضافة لما سكه العربي التليد، لأنه ليس استنساخًا وإنما تأثيث جديد متجدد، لبيوت الشَّعر، التي هي معادل لبيوت الشِعر، وقد انتزع الخليل مصطلح علم العروض من بيت الشَّعر فأسقطها على بيت الشعر. هذا الإبداع الجديد الذي يعلن الشاعر الدميني عن بدايته هنا في هذا النص هو إبداع يروض الذاكرة على النسيان، لتفتح نوافذها على موسيقى الكلام الوليد. هذا الكلام الوليد في إبداع الدميني يتشكل لغةً وإيقاعًا ورؤيا. ويمكننا أن نقوم بتتبع ملمح من ملامح التشكيل اللغوي حيث يقترب فيه وبه النص الدميني من الحياة ولغتها القريبة، من النبع، حين يصغي للمجموع، حيث يوظف النص الشعبي الذي ظل في منطقة الهامش قرونا طويلة فاقتحم الشاعر به النص الفصيح، ونجد نص "لذاكرة القرى" ص 79 الذي أهداه إلى روح الصديق الراحل عبد العزيز مشري وهو من مواليد الباحة، يقول فيه: (أبدع القاف والمحراف، واكتب على ما ينحِّل له من جبال الجنوب ومن سحابٍ نلمه باصبعين يا صديقي على جرح الكتابة ودم ماي نحله قد كتبت القرى جنة وحبك لها ينصب العين) هذا الاستفتاح يعقبه مقطع فصيح على النمط التفعيلي: مثلما سيطل الغريب على (محضرة) سيطل ابن مشري على نفسه في البيوت التي نبتت من عروق الجبال وسيسألها عن فتى ذاهب لحقول البدايات حيث تسيل الطفولة فوق عيون الحصى ...ليأتي بعد هذا المقطع مقطعٌ عامي آخر: (يا شريكي على ما ينَّحا لك، وما ينحى يلي نعشق الشمس وسط البحر وإن كان مايه حايلي) ينتقل بعده في مقطعين من الفصيح المضمخ بالمفردات التي تحيل على المكان يفتتحهما بلازمة أسلوبية: "مثلما سيطل" "مثلما سنطل" يقول بعدهما: "نقتسم حزن من نهوى و"كاديك" من "دوقه" نحاه ما علينا ولو بعض العرب خاف من نقد النحاة) هذا النص برمته مسكون بالحس الريفي بالشعبي المنفتح على هموم وأحوال الناس في القرى وموقف الإبداع، هو استرجاع لذاكرة القرى، للحياة، هو تواصل مع عالم الإبداع مع مبدع محترف هو عبد العزيز مشري الذي يسقط عليه الشاعر رؤية الأنا للإبداع، وللعلاقة بالريف بالقرى، هذا الاسترجاع لحياة الريف هو نوع من الاستعصام ببراءته، هو عودة للنبع صناعة لبرزخ مختلف. الشاعر الدميني يحقق ذاته المبدعة من خلال مشري الذي تجلى قناعًا في هذا النص للشاعر يحكي عنه، ثم يستحضره عبر الضمير الذي انتقل من الغائب إلى المخاطب في النص. إن الشاعر يتسلح بوعي جديد يلامس من خلاله حياة جديدة مفعمة بطراوة الريف وبراءته، يتغنى بالإنسان وهو يعانق الأرض ويهيؤها للحياة، بالفتى الذي لم تصرفه الحياة الجديدة عن عشق أرضه، بالمرأة التي تتسلح بفتنتها في عشها، وبالمشعاب في الأرض في مواجهة الحياة، إنه تشكيل جديد للحياة عبر فضاء الكتابة، التي تقترب من نكهة الحياة رؤية وتشكيلا لغويا، فتقدم تمثيلاً يجسد رؤية الشاعر، فها هي مفردات الريف تعيش في النص أمكنة وأزمنة وقمحا وعشبا ونصوصا. بحث عن حياة كانت واستعادة لذاكرة القرى كما في العنونة: لم يعد في الرواسم مما تركنا سوى وجع الكلمات القرى كلمات الندى كلمات والذين أقاموا من الطين والقمح والعشب متكأ للحياة والذين لهم مطر مثل ظلك فوق البيوت أصبحوا كلمات هذا الغياب يستدعي حضورًا مضادًا يجعل الشاعر يدعو صاحبه فأقم يا صديقي على الباب برزخك الرحب واكتب لنا. الكتابة تغدو هي الحضور المبدد لهذا الغياب، الكتابة على شاكلة مختلفة، إنها الكتابة عن حياة الريف، عن وعي جديد يستثمر الفعل ويدرأ مظاهر الغياب، ويكتنه حقيقة الإنسان الفاعل العاشق للحياة والأرض، الانسان الذي يقوم بنفسه لا بغيره.