إن القارئ والمتتبع لمسار وتاريخ المجتمعات والأمم والشعوب سوف يلحظ مسألة هامة وضرورية، هي مدى تأثير الثقافة الشفوية والموروث الشعبي في صياغة المزاج العام لكل مجتمع وأمة وشعب، وسوف يلحظ دور الذاكرة بوصفها المخزون الذي يمثل تلك الثقافة التي هي نتاج تراكم عشرات بل آلاف السنوات والتي تدخل عميقا وجذريا في تحديد الهوية العامة، والملامح الأولى والرئيسية في المكون الاجتماعي والثقافي والحضاري. ما الذي يدعوني للحديث هنا عن أهمية الثقافة الشفوية والموروث الشعبي؟ إنه غياب هذه الثقافة وهذا الموروث بشكل لافت، وعدم الإكتراث بهما، وإن الثقافة هي ثقافة نخبة متعالية لا تغوص في عمق التربة الوطنية والثقافية والاجتماعية والبحث عن جواهر ولآلئ هذه التربة، ذلك أن التراث الخارج من هذه الأرض هو نفط آخر، ثروة أخرى ومخزون ثقافي ومعرفي هائل، وأن ما هو شفوي وشعبي هو من الغنى والعمق، حيث إنه يشكل القاعدة التي تنبني عليها معمار الكتابة الإبداعية والثقافية، ليس في توظيف الشعبي والأسطوري في القصيدة خاصة في القصيدة الحديثة، وكما هي تجربة الشاعر علي الدميني عبر قصيدته «الخبت»، ولكن توظيف ما هو شعبي وأسطوري، الساكن في المخيلة الشعبية في القصة القصيرة والرواية والمسرح والفن التشكيلي، وكل تجليات الإبداع الآخرى. إن الأمر اللافت أن هذه الثقافة الشعبية وحتى تضيء وتتجلى في القصيدة الشعبية الكلاسيكية، في كل مفردات وخصائص الوعي الاجتماعي الشعبي، لم تشكل حضورا إبداعيا في الأعمال الإبداعية كالرواية التي تشكل اليوم النص الإبداعي الجديد، والتي تقدم بوصفها نصا جنسيا يقدم المكبوت الجسدي بصورة سطحية وغير عميقة، ولكن يضيء تحولات المجتمع السعودي، من مجتمع القرية إلى مجتمع المدينة، بين الذهنية البدوية التي ظلت سائدة رغم وجود كل قيم المدينة إلى ترييف المدينة، وتمدين الريف، وعدم وجود المدينة بالمعنى الحقيقي للمدينة وضياع هوية القرية والريف، ثم هذا الاهتزاز في القيم الاجتماعية. كل ذلك وغيره من التحولات، كان ينبغي أن يصاحبها وعي حقيقي أيضا من المبدعين والأدباء خاصة في حقل السرد، القصة والرواية، وكان يقتضي معها الإيمان بأهمية حضور الوطن بصفته مجتمعا وتاريخا وأرضا وبشرا وقائما على ثنائية القبيلة والعائلة ومحكوما بثقافة شفوية وشفهية، وموروثا شعبيا وعالما سحريا من الأساطير والقصص والشعر الشعبي ومواسم العرس والختان والرقصات الشعبية والحضور الطاغي للمرأة في حفلات الزواج، كل هذه المفردات تمثل عبق الأرض واحتراقات الإنسان وما تحمل رائحة الحقول الخضراء والسنابل العالية، وزرقة البحر، والجبال والسهول، ومتاعب وكفاح الجيل الأول، جيل أجدادنا وآبائنا، لا نجدها ولا نراها موجودة بفكر خلاق ومبدع ومتقن، إلا بعض الاستثناءات كما هو العمل الروائي «الغيمة الرصاصية» لعلي الدميني، و «الحزام» لأحمد أبو دهمان، والأعمال القصصية والروائية للأديب الراحل عبدالعزيز مشري، وبعض أدبيات الجنادرية أو ذلك الذي تجلى تجلي ذلك في تجربة الفنان الكبير محمد عبده، الذي بقدر ما جعل الغناء حالة وجدانية روحية بقدر ما جعله هذا الغناء في كثير من أعماله الشعبية أكثر وطنية وأكثر ذهابا والتصاقا والتحاما بالأرض. إن الأرض هي الأم وهي الرحم الأول والانتماء الأول وهي صوت التاريخ والناس، والواقع وهي الذاكرة التي تختزن كل هذا الموروث من التراكم المعرفي وتجارب الحياة والبسطاء ممن ينتمون إلى هذه الأرض وحكمة الحياة، وممن يحملون في ذاكرتهم ووجدانهم، الثقافة الحقيقية الطازجة والحارقة والمحترقة في هواجسهم ومتابعهم. إننا نريد أدبا وفكرا خلاقا ومختلفا بقدر مايضيء بالجديد، بقدر ما يضيء بمعاناة الناس ويحمل تجليات المكان، نريد أدبا وفكرا يحمل الهوية الوطنية والاجتماعية، لا أدبا ولا فكرا مستعارا يحمل هموم ولغة الآخرين، ذلك أن الكلمة المبدعة والحقيقية لا تأتي إلا من هنا، من تجلياتها التي بقدر ما تحمل عاميتها تحمل عالميتها أيضا، كما عند نجيب محفوظ عربيا وجبرائيل جارثيا ماركيز عالميا. إن ذاكرة الأرض تتحدث، فمن يصغي لصوت هذه الأرض. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 203 مسافة ثم الرسالة