أبرم عبدالعزيز مشري مع نفسه عقداً بأن يكون إنساناً فقط، إنساناً في حياته، إنساناً مع الآخرين، إنساناً في إبداعه، ونجح عبدالعزيز في "إنسانيته" مدى حياته وحلق بين أصدقائه وقرائه ب"إنسانيته" لذا جاءت كتاباته السردية ومقالاته الصحفية صادقة في بوحها أنيقة في كلماته نقية من شوائب الكذب والنفاق، هكذا كان المبدع الكبير الأستاذ عبدالعزيز صالح مشري (1954 – 2000م). يرحمه الله صدق مع إنسانيته فصدق في كل حياته وأدبه. عرفت الأديب المشري من منتصف الثمانينات الميلادية كاتباً أنيقاً وقاصاً بارعاً ومتحدثاً لبقاً يكن الاحترام لكل الناس، له قدرة على تحمل الألم والمرض والصبر عليه قل أن يتحملها شخص غيره، فكانت وطأة الألم وقوده في الكتابة يغمس قلمه في أنينه ليكتب أروع النصوص. حاورته في مطلع التسعينات الميلادية ونشرت هذا الحوار والمكاشفة في العدد الأسبوعي من جريدة المدينة فكانت إجاباته بريئة وصادقة ومتفائلة تغمر حروفه البيضاء الأمل والجمال. لقد استوقفت روايات وقصص عبدالعزيز مشري النقاد سنوات طويلة فاشبعوها درساً وتحليلاً فما كان في الساحة الثقافية من يجيد ببراعة كتابة الرواية حتى منتصف التسعينات سوى عبدالعزيز مشري وعصام خوقير وإبراهيم الناصر، ولذلك كان عبدالعزيز مشري مقصد النقاد لأسباب عديدة ليس أولها تميزه في الحبكة وجمال لغته وليس آخرها اهتمامه بالتفاصيل الدقيقة لعوالم القرية الجنوبية وشخوصها. واليوم وبمناسبة مرور (15) عاماً على رحيل عبدالعزيز مشري الكاتب والإنسان نعود بذكراه الجميل إلى حياتنا الثقافية ونقدمه للأجيال الجديدة التي -ربما- لم تعرف شيئاً عن إبداعه الذي غمرنا به ونقول لهذه الأجيال أننا عرفنا عبدالعزيز الإنسان وعرفنا عبدالعزيز المبدع واستمتعنا بالاثنين معاً. في هذا اللقاء يتحلق جمهرة من الشعراء والأدباء والنقاد ليتحدثوا عن أيامهم مع المشري وعن قراءتهم لإبداعه فإلى هذه الأحاديث المشحونة بالألم المعطرة بالحب. في مطلع هذه الذكرى المضمخة بروحه العاطر تحدث الشاعر الكبير الأستاذ علي الدميني الذي كان من أكثر القريبين منه لعقود طويلة وهو من أكثر الأوفياء الخلص لعبدالعزيز مشري حيث قال: منذ أسبوعين، كنت في منطقة الباحة، وفي حاضرتها الصغيرة التي تغتسل بقبلات الغيوم ورهافة الأمطار في الشتاء والصيف، وتستعد لأن تكون مدينةً جبلية جميلة. حملت معي إلى "مهرجان الشعر العربي الثاني بالباحة" الكثير من كتبي والكثير من مجلدات أعمال"عبدالعزيز مشري"الكاملة، حيث ما برح اسمه حاضراً- بألق - في جنبات ملتقيات المهرجان، وكان بعض الأصدقاء يتوقون لزيارة قرية "محضرة"، التي خلّدها عبدالعزيز في أعماله السردية، إلا أن جدول فعاليات المهرجان المبهجة، حالت دون تحقيق تلك الرغبة. أما أنا فقد اختلست بعض الوقت لزيارة الوالدة والعائلة الحبيبة، في محضرة، وكان مما حرصت عليه، مثلما في كل مرة، زيارة المكان الذي كان يعيش فيه عبد العزيز. البيت القديم، اللوزة، الغرفة التي خصّصها له جدُّه، الإطلالة على الحصون، وبيت صالحة، وبقايا الزمن الندي.. كانت دائما تملؤني بالحب والوجد والأمل، وبالحزن أيضاً على يباس الحقول الزراعية التي جسّد عبدالعزيز روائحها الخضراء، ويباسها المبكّر، وهجاءها، والبكاء على أطلالها، في قصصه ورواياته. احتضنت والده النبيل "شيخ قريتنا محضرة" ولثمت فيه روائح عبدالعزيز وجدّه "محمد ابن مشري"، وشربت من ابتساماته العذبة ما يجمعه من صداقة عميقة بوالدي، و ما يكفي لأن أقول "إن الأحياء لا يموتون". منذ طفولته المدرسية، كان عبدالعزيز أنيقاً وجاداً، وودوداً، ومحباً للقراءة، والإبداع، وللحياة المنفتحة على جماليات ما يمكن للإنسان أن يقبض عليه من لفتات التأمل، وجذوة المعنى، ومن التوق العفوي العارم لعيشٍ أكثر عذوبة وجمالاً. وفي سنواته البعيدة في الصبى، فُتن بالكتاب والكتابة، والرسم، والخط، ومحبة التأليف، وأقدم على مغامرة كتابه الأول -الذي لم أكن راضياً عنه- وأصدره تحت عنوان "باقة من تاريخ أدب العرب"، وكان يومها في الصف الثاني المتوسط!! بيد أن تلك الخطوة المغامِرَة الأولى قادته للانهمام بالحرف والكلمة، والمضي إلى مسارات الكتابة الجديدة، حين غادر قريته ليدخل في مناخ جريدة اليوم وكُتّابها في الدمام، وليُصدر بعد ذلك مجموعته القصصية الأولى تحت عنوان "موت على الماء"، في عام (1978م). لقيت المجموعة أصداءً جيدة من القراء والنقاد، وأثّثت موقعه المبكر كأحد كتاب "القنطرة الذهبية" الذين اسهموا بتجربتهم القصصية في انتقال القصة القصيرة في المملكة، من المرحلة الكلاسيكية والرومانسية إلى فضاءات متعددةتنتظمها رؤية" الواقعية النقدية" والتجريب الحداثي. كما أن تلك المجموعة القصصية قد غدت حجراً تأسيسياً قبس منها عبدالعزيز أسرار اهتماماته وتميزه الإبداعي التالي، رؤية و تشكيلاً، وجعلت من مثابرته على كتابة الرواية أنموذجاً رمزياً، وأباً معاصراً لولاداتها العصيّة في زمن القحط، ومناخاً خصباً ومحرضاً لجيل جديد من الروائيين السعوديين الذين اقترفوا -على هدى خطواته - مكابدة متعتها ومتاعبها وجمالياتها في حياتنا الثقافية! ويواصل شاعرنا الدميني حديثه عن صديق عمره فيقول: "الأحياء لا يموتون"، ذلك هو العنوان اللامع – رغم كل ظلام الوقائع – الذي كرّس له عبدالعزيز رهافة الإنصات، وجماليات الاستجابة، ليكتب عن فتنة شغف الإنسان بتحقيق ذاته ضمن معطيات واقعه، وباعتماده على امكاناته الذاتية والجمعية المتاحة، وتنميتها، لكي يكون قادراً على مجابهة قسوة الطبيعة، واحتجاب المطر، من أجل اكتساب لقمة العيش الكريمة أينما كانت، دون ذلّةٍ أوخضوع لأحد! ذلك هو الكون الإنساني الواسع الذي تفتحه سرديات واهتمامات وحياة عبدالعزيز مشري، التي اتخذت من قرية نائية في "منطقة الباحة" منطلق نماذجها الإبداعية، لا لتضعها في مصاف الأسطورة السحرية، وإنما لنتأمل فيها انفتاح مرموزها من كنائيته وإحالاته المرجعية الضيّقة، إلى آفاق استعاريته الشاسعة، المعبّرة عن قدرة الإنسان، في كل مكان من هذا الكون، على مقاومة وطأة الظروف القاسية التي يعيش فيها، ليبقى منتصراً لإرادته، وقيمه، و للمعاني الراقصة في فضاء حلم الإنسان، بحياةٍ حرّةٍ، عادلةٍ وكريمة! في ليلته الأخيرة، كنت محظوظاً بما لا يمكن للكلمات أن تكتبه، وكنت حزيناً بمالا يمكن للمجلدات أن تستوعب تفاصيله. ذلك أنني زرت " عبد العزيز" في آخر ليلةٍ من حياته في منزله، في حي الصفا "بجدة"، وعشت معه ومع أخيه الرائع "أحمد" وعائلته حفلة العشاء الأخير! متعباً كان، ولكنه سَعِدَ بوجودي، وجرى الحديث حول أمورٍ كثيرة، ومنها مشروع إعادة طباعة أعماله، الذي كنت قد أنجزت منه مجموعاته القصصية القصيرة، واحترت في اختيار صورة الغلاف المناسبة، ولكن الصدفة قادتنا للاتفاق على اختيار صورته التي تشي بالكثير من دلالات الأناقة و محبة الحياة، مثلما تحمل مشاعر الفقد البارزة في غياب أحد الأصابع المبتورة من اليد اليسرى!! نام في غرفته بين رفوف الكتب واللوحات وأكداس الجرائد، ونُمت في مجلس الضيوف، وحين صحوت باكراً للذهاب إلى المطار، قالت لي ممرضته الرائعة: لقد تعب عبدالعزيز ليلة البارحة، وحمله أخوه أحمد إلى مستشفى الملك فهد. في المطار، هاتفت شقيقه أحمد وقال لي: إن عبدالعزيز في غيبوبة، والأطباء ينصحون بعدم زيارته، و لكن ثقتي كبيرة بأنها أزمة عابرة، مثل كل الأزمات السابقة التي عشتها معه، ومنها غيبوبته "أربعين يوماً" في أمريكا، والتي كتب من وحيها روايته الأخيرة " المغزول"! ويمضي الدميني يدون بحزن أيام المشري الأخيرة: بعد أربعين ليلة من الغيبوبة، مات عبدالعزيز في الساعة السادسة إلا ربع من مساء يوم 7/5/2000م، و واريناه الثرى في "مقبرة الفيصلية، بجدة( ويقع قبره على بعد أربعة أمتار من جدارها الشرقي وعلى مبعدة ثمانية أمتار من الجدار الشمالي)، وها أنذا لا أتذكره وحيداً، ولا يتذكره "أحمد مشري" وحيداً، وإنما تتذكره الساحة الثقافية العربية من مغربها إلى مشرقها، وذلك من خلال ما يصلني طوال هذه المدة الطويلة على وفاته من رسائل وإيميلات، ومهاتفات، تبحث عن أعماله السردية، ومن خلال ما تتداوله الوسائط الإعلامية والمواقع الالكترونية من اهتمام كبير بأعماله الإبداعية، قراءةً ومتابعة، ويتوّج كل ذلك عدد الرسائل الجامعية التي يعدها طلبة الدراسات العليا في الماجستير والدكتوراه عن إبداعاته السردية المتميزة بالخصوبة والخصوصية والتألق الإنساني الجميل. الليلة، استعيد جملةً شعرية للشاعر "بابلو نيرودا" في قوله "الليلة أستطيع أن أكتب أشدّ القصائد حزناً"، ولكنني رغم فداحة الفقد، سأذهب إلى الجانب الآخر من المعنى لأقول: "أستطيع الليلة أن أكتب اشدّ القصائد غبطةً"، ذلك أن عبدالعزيز ما يزال حياً في قلبي، وفي ثنايا الحياة الثقافية العربية، وفي قلوب الكثيرين غيري". ولهذا أكتب "إن الأحياء لا يموتون". وأختم كلمتي بهذه الفقرة من مقدمتي النقدية لمجلد "المجموعات القصصية" لراحلنا الباقي: (لقد تعلّم عبدالعزيز من تجربة " أنكيدو في ملحمة جلجامش" أن الخلود لا يتحقق بالبحث عن عشبة الحياة الدائمة، لذلك أجهَد نفسه ليجدها في الكشف عن لحظة معنى "الحياة" والسير به نحو خلود الكتابة. حقاً، لقد عاش عبدالعزيز كما يليق بمبدعٍ نبيل و رمزٍ أنيق، وسيبقى في نبض حروفه حاضراً كأثر لا يمّحي. ولو أن أحداً يستحق استعارة هذه العبارة من صاحبها، لكان هو أول من سيرفع صوته بها، قائلاً: "أشهدُ أنني قد عشت"!). أما الروائي والكاتب الأستاذ أحمد الدويحي فيختار فضاء عبدالعزيز مشري الإبداعي ليكتب عنه بعمق ووفاء فذكر: يحسب للروائي للمبدع عبدالعزيز مشري - رحمه الله- أنه أول من وطنّ البطل الروائي، وكنا قبله نأخذ البطل إلى خارج الحدود، ليتم تفريغ شحنات البطل الروائي، وأستطيع تسمية أكثر من نص روائي قبله على قلة المنتج، نلاحظ أنه غالباً تنتهي الرواية في عاصمة عربية، وإذا كان في جانب أخر يعدُ أول من جسد القرية الجنوبية، ولم يأت هذا التجسيد صامتاً ينقل من تراثها العظيم، ولكنه تجسيد واع وراصد، تأمل التحولات المجتمعية في القرية الجنوبية، ورصدها كنموذج للتحولات في المجتمعات السعودية، وميزة عبدالعزيز أنه سبق الجميع، ووضع أصبعه على جملة من تلك التحولات، واستطاع ببراعة أن يقدم لنا مشروعه السردي الجميل، ليبقى معطى ثقافيا توثيقيا للأجيال القادمة، ولم يخرج عن هذا السياق إلا في تجربة وحيدة متميزة (موت على الماء) القصصية، وأعترف بعد هذا العمر بعشقي للمذهب الفني السريالي، وقد غشي هذا النص وكثيراً ما كنت في حضرة عبدالعزيز، فلا أجد عنده ذلك الحماس الذي يعتريني، وكنا نتفق على بساطة لغة النص الموحية، واللقطات التي توحي بفضاء النص، ولكن ولأن للمشري - رحمه الله - مشروعه الكتابي، فقد انصرف تماماً في الرواية الأولى له إلى تشكيل فضائه الخاص به، وذهبنا معه إلى فصول (الوسمية) الرواية الزمكانية، لتعكس حالة من نشاط القرية الجنوبية تعني بالحرث والحصاد كمجتمع روائي، وما نلبث أن نأتي على عالم رواية (صالحة) لنقف على ملامح التجسيد في مشروعه الكتابي، الذي يكتمل في رواية (المغزول) وظهر فيها النضج الكتابي، وأقصد بالنضج هنا فكرة المشروع، ولكن هذا المبدع الممتلئ حساً ووعياً وألماً، لم ينس أن يجترح من السيرة الذاتية، لتتسلل ضفائر من عبر نصه الكتابي، ولا يمكن لقارئه أن ينسى الجملة التالية من رواية المغزول (أين رجلي، أعيدوا لي رجلي)، هكذا كان يردد (زاهر المعلول) بطل الرواية، وقت إذ مدّ يده، ليحك موضع تنمل شديد في أصبع قدمه اليمين، انحنى كسبابة معقوفة نحو الأمام، ولم يجد لقدمه أثرًا، علم على بعض من الصحوة وبعض من خدر في الوعي، إنه الآن بلا قدم.. تلك إحدى المعضلات التي وجهت الكاتب الروائي المبدع، مرض عبدالعزيز مشري الذي حدّ إلى حدٍ ما، لنظفر بزخم روائي هائل لهذا المبدع الكبير الذي داهمته الأمراض من كل حدب وصوب، والمتلقي لنتاجه يعرف حجم ما كان يواجهه من مصاعب متنوعة قبل أن يختطفه الموت في سن مبكرة رحمه الله. ميزة عبدالعزيز أنه حدد مشروعه وفضاءه الكتابي مبكراً، ولم يدعّ للمزاجية مجالاً فقد كان معجون من تربة عالمه، الرحيل إلى عالم عبدالعزيز مشري الكتابي، متعه لا تخلو من تأمل لنستحضر جملة من التحولات، لا شك أنها ستكون مكان عناية الدارسين لهذه التحولات، وإذا كان لي من وقفة في هذه السطور، فهي ذات التلويحة التي كان عبدالعزيز يستخدمها عنواناً لمقالاته، لتزجى إلى رفيق دربه أستاذنا الشاعر علي الدميني، فقد أحتفى بنتاج عبدالعزيز ورعاه حياً وميتاً، لنشهد أعماله كلها مطبوعة في مجلدات، وليسهل على القارئ الحصول عليها، رحم الله المشري وأطال عمر الدميني بالصحة والسعادة. ومن الجانب الأكاديمي يبرز صوت الناقد الدكتور صالح زيَّاد الذي يصف المشري بأنه أحدث أثراً قوياً على نمو القصة السعودية وقال أيضاً: لا يمكن للثقافة السعودية أن تنسى اسماً كبيرا بحجم عبدالعزيز مشري -رحمه الله- فما تركه تحديداً من إنتاج سردي في القصة والرواية، يمثل بصمة مائزة وغزارة لافتة، وهاتان صفتان قويمتان في التثمين للمنجز الإبداعي، وعلى الخصوص في سياق الأدب السعودي، وفي سياق المرحلة التي عاشها عبدالعزيز مشري، حيث الكتابة التي تجترح تفردها واستقلالها محاصرة ومتهمة. وأحسب أن ارتقاء الوعي وتقدمه النسبي الذي أسهم عبدالعزيز في حدوثه، يلتفت الآن إلى منجزه بالحفاوة والتثمين، فالرسائل الجامعية تتكاثر حول منجزه، إضافة إلى الدراسات والمقاربات المتوالية وإعادة طبعات مجموعات قصصه ورواياته وما أحدثه أصدقاؤه ومحبوه الكثر من حسابات باسمه في مواقع التواصل الاجتماعي. وكم تعتريني حالة من الدهشة الممزوجة بالإكبار حين أجد اليوم بعض الشباب من طلابي في الجامعة أو من مرتادي شبكات التواصل يردد إلى درجة الحفظ غيباً عبارات كاملة ومتوالية من "الشيخ ابن الشيخ يتزوج" أو "ابن السروي" أو غيرهما من روائعه! وهي دهشة تتعاظم وأنا اكتشف اتساع المقروئية لقصصه ورواياته والإقبال عليها لدى جيل الشباب من مناطق المملكة المختلفة. ولقد ساورني بعض الإشفاق على إحدى طالباتي حين تقدمت بمقترح لأطروحتها عن عبدالعزيز مشري، لأنني توقعت أنها قد تعاني من فهم جوانب ذات صبغة محلية جنوبية في الخطاب ثقافة وتعبيراً، وسألتها عن ذلك وأنا أرى أثرا آسراً عليها من نصوص عبد العزيز، فأخبرتني أنها لم تواجه أدنى صعوبة في التفاعل معها ومحبتها. لقد أحدث عبدالعزيز مشري بنهجه السردي وباستمراره أثراً قوياً على نمو القصة السعودية، ونَثَر أسئلة بين المهتمين بها عن الواقعية والمحلية وعن الفعل النقدي الذي ينهض به الإبداع، وعن التفاؤل بانتصار المعنى الإنساني. وأعتقد أن أكثر ما يأسر جمهور عبدالعزيز مشري إليه هو عمق الحس الإنساني والدلالة على القوة في الكائن الذي تستبيحه العلل الاجتماعية المختلفة، وهي قوة بأكثر من معنى. من جهة أخرى يرى الناقد الأستاذ عثمان الغامدي النجاح الذي حققته أعمال المشري الإبداعية هو استخدامه للقضايا المحلية لاسيما تناوله للقرية الجنوبية.. وأضاف أيضاً: شكل الروائي والقاص عبدالعزيز مشري يرحمه الله منعطفا في الرواية في المملكة العربية السعودية، ففي رواياته جميعها باستثناء في عشق حتى تجده يولي المجتمع القروي وخاصة القرية الجنوبية جل اهتمامه، فصب جهده في إبراز الجوانب الاجتماعية في القرية الجنوبية، ومع أن الرواية هي ابنة المدينة إلا أنه استطاع أن يدون في رواياته ذلك الجانب المعاكس للمدينة بكل تجلياته، فمثلا في رواية "صالحة" حاول أن يوضح ترابط المجتمع القروي في النوازل والنوائب ونظرة ذلك المجتمع تجاه أرملة (صالحة) تعاني النظرة الانتهازية والاستضعاف من بعض ساكني تلك القرية، وفي رواية (الحصون- ديك الشيبة) تمكن من إبراز جلسات السمر القروية التي لا تكاد تتجاوز صلاة العشاء. يمكن بحق أن يعد عبدالعزيز مشري صاحب اتجاه خاص ومميز في الكتابة الروائية حيث سيجد القارئ أنه استل الكثير من القصص والحكايات الشعبية الرائجة في القرية الجنوبية، وربطها بأحداث تعيشها تقريبا كل تلك القرى، هذا عدا لغته القريبة من التناول الجنوبي للقرية، والمفردات التي اندثرت ولم تعد تستعمل في المعجم الجنوبي، ولعل الكثير من أبناء الجنوب الذين لم يحظوا بالحياة هناك أن يجدوا في رواياته ما يعطيهم شيئا عن الحياة في القرية الجنوبية، ونماذج من التعايش فيها، بل وأساليب اللغة المستخدمة في حقبة ما قبل الطفرة بالذات، وهو منهج روائي استخدم من قبل بعض الروائيين الذين عالجوا المحلية لرواياتهم، وأذكر مقولة للروائي عبدالرحمن منيف تؤيد هذا الاتجاه الذي نهجه عبد العزيز مشري في رواياته، وهي أنه كلما كانت رواياتنا محلية أصبحت عالمية، ولعل هذا الأمر هو أحد أسباب نجاح رواية "الحزام" لأحمد أبي دهمان في فرنسا، وفي جميع ترجماتها إلى الكثير من اللغات العالمية، وليت روايات المشري تحظى بمن ينقلها إلى لغات عالمية لتحظى بالنتشار كذلك. إلا أن الروائي خالد المرضي يأسف كثيراً لأنه لم يقابل المشري الإنسان لكنه استطاع التعرف عليه من خلال شخصياته وعوالم قريته وقال أيضاً: بين قريتي (الطرفين) وقرية عبدالعزيز مشري (محضرة) مسافة ما يقطعه الراعي من سفح الجبل إلى قريته رفقة قطيع غنمه، قريتان متجاورتان تقتسمان الجمال وتستظلان بذات الغيوم، لم أعرف عبدالعزيز في عالم القرى إذ كنت صغيراً حينها لا أتجاوز حدود قريتي، لكنني عرفت عوالم القرى عبر عبدالعزيز، أقصد ما يفعله الأدب، حين يقرأ الإنسان والشجر والحيوان والجماد أيضاً، حين يقرأ كل هذا منغمساً إلى الداخل، سابحاً في ذوات الأشياء، حيث أعماقها القصية، كنت اتخيل هذا العبدالعزيز على هيئة رجل يشبه معلم اللغة العربية، جسد ضخم وكف تشبه الرحى، لحية كثيفة وصوت يدوي كالرعد، قرأت قصة (حد الاسفلت) أولاً في مجلة العربي، فكانت كتابة لا تشبه الكتابة، وعالما لا يشبه الواقع، لكنني أعود فأقول أنه الواقع لكن هناك سحراً فيما بين السطور، كنت قد سمعت عبر أخوتي أن أديباً رائعاً يسكن قرية مجاورة، يؤلف الكتب ويقص القصص، وتنشر كتاباته الصحف السعودية والعربية، أذكر أنني حفظت تلك القصة حتى سكنت ذاكرتي مثل نقش غير قابل للمحو، ثم توالت القراءات حتى حصلت على مجموعة (موت على الماء) ورواية (ريح الكادي)، لكنني كنت حينها قد غادرت قريتي في نزوح لأغلبية العوائل نحو الجدران الاسمنتية كما يسميها المشري. عرفت عبدالعزيز ولم أعرفه، عرفته عبر ما كتب، ولم أعرفه عبر واقع الحياة، فكل سارد وعبر شخصياته المتخيلة يسكن جزءاً من شخصيته ومن ذاته، كتب عبدالعزيز عن عوالم القرى، عن الشايب عطية وعن صالحه وعن الولد أحمد، كتب عن رائحة الأرض بعد المطر، عن حليمة والحماطة وعن البهم، كتب عن الألم والفرح، عن شقاء الإنسان في رحلة البحث عن قوته، عن النسيج الاجتماعي، كان في كل دفقة حبر ينحاز إلى الإنسان، وفي كل ذلك كان يحمل فوق كتفه قلماً وليس بندقية كما يقول! لكنه كان فناناً يحاول أن ينوع في وسائل تعبيره عن ذاته وعن الإنسان في عمومه، فكتب القصة والرواية والمقالة والشعر والرسم وعزف أيضاً على آلة العود، والغريب أن المشري لم يكن كما تخيلته في مراحلي الأولى، فهذا المسكون بالجمال والروح المبدعة كان يقع تحت سطوة المرض وهشاشة الجسد وضعف النظر، لكنه وكما مبدعين عظماء، جعل من كل ذلك وقودا ليشعل ملكة الإبداع وليكتب الدهشة في نصوصه القصصية، ناحتا مفرداته وجمله الخاصة، وسارداً يعرف كيف يحبك رواياته، أو كاتباً يلوح بمقالاته نحو مواطن الوجع أو مكامن الجمال. أذكر أنني كنت أقف بين التلاميذ حين هبطت رسالة تقول إن المشري قد رحل. وأذكر أنني كتبت اسمه على اللوح الخشبي معقباً برحمه الله، حين سألني التلاميذ عن من يكون المذكور حين قلت: لا تهتموا فلعل أبناءكم أو أحفادكم يقرؤون شيئاً عنه في مقررات الأدب السعودي. وهذا شقيقه الأستاذ أحمد مشري يكتب لنا عن أخيه كلمات مضمخة بالحب ممزوجة بالألم تحمل الصدق والحزن محملة بجوانب عاطفية واجتماعية يقول أحمد عن أخيه عبدالعزيز: في صيف عام (1985م) وصلت مطار الظهران ولقيت هيئة نحيفة كثيفة الشوارب بنظارات سوداء ولم أكن اعرف إلا اسمه ونكهات من شكله القديم.. كان "عبدالعزيز".. وجدت الإنسان بجذوره الإنسانية العميقة، المتمرد عما عهدناه من الأخ الكبير (الوصي). عرفت الديمقراطية وحرية الرأي، وأبحرت معه في أرض (إليوت) اليباب، ثم غصت في الكلاسيكيات الروسية وتوالت الحكايات والأحداث.. عرفته تكاملياً وعشت معه وكان المعلم الأول، ولو أنني حريص على ألا أتكلم عن كل شئ لأنني أخاف أن أنسى من كثرة الأحداث والمعاناة، لكن تحضرني الآن معاناته المريرة مع جريدة اليوم التي أكلت جهد عشر من السنين ورفضت إعطاءه شهادة بذلك واكتفت بثلاث من السنين كخدمة لديها!! وأذكر أنني طلبت منه توثيق تلك المعاناة فرفض واكتفى بقولها شفهياً لما يحسه من غبن وقهر وامتهان. عندما نذكر عبدالعزيز فنحن نعني أصدقاءه فقد كانوا همزة الوصل بينه وبين الحياة على اختلاف نظرتهم وكان يردد " أصدقائي كحبات اللؤلؤ"، الأصدقاء من داخل أو خارج الوطن، صندوق بريدهبالدمام أولاً وجدة ثانياً كان يفيض بالرسائل والمطبوعات والخواطر وكان يقرأ الجميع ويحرص على الرد حتى لو لم يستوقفه كثير منها. أصدقاء الحرف والموقف والفكر والإنسانية. وقف أولئك الجواهر بجانبه من الدمام للرياض إلى جدة، وكانوا بحق مضيئين له ومتوهجاً بهم.. على الرغم من كونه متذمراً من أي زيارة (تقليدية بلا موعد) إلا أنه كان يتحامل ويقابل ويبتسم معللاً ذلك بقوله: "كثر خيره أنه جاء وسأل"، لأنه يدرك أن الإنسان هو تعامل وليس منظَر بتشديد الظاء. (عبدالعزيز) ذلك الأنيق الذي لا يرضى بأن يذهب إلى أي مكان إلا وهو مهندم تماماً حريص على كل التفاصيل وكأنه يكتب سرداً ولا يريد إغفال تفصيله ما. لا أريد الخوض عن تجربته المريرة مع المرض لكونه كان يعتبرها مصدر ضعف وشفقة في عيون الآخرين، لم يسمح أن يعامل نفسه مريضاً، بل كان يستمد من المعاناة إبداعه، ويضحك من نظرة الآخرين تجاه المرض، يردد لأصحابه عندما كان (يتديلز): هههه اليوم غسيل.. وغداً كوي. أحب الحياة ويرى أن الإنسان هو عقلاً وليس جسداً (وليس الجسم السليم في العقل السليم).. وطالما أن للوجع علاجا فهو ليس مرضاً، متفائلاً مبتسماً رغم كل التشوهات الحياتية. له قدرة عجيبة في كسب الناس وجعلهم أصدقاء مذيباً كل الحواجز من خلال نكتة أو عبارة ما، مستغرباً من تجهم وجوه أغلب الناس. يرى تصرفات الشباب المتهورة أو المتزمتة بأنه يعود لحاجتهم لتبني قضية ما... حريصاً على تقسيم وقته، يقرأ حتى أثناء جلوسه للديلزة أحياناً كثيرة حتى تعب فتوقف، معاقبا ذاته على تمردها من قانون التقسيم، أحب جميع الناس دون (تمييز)، مراهناً على الأصوات الشابة في ذلك الحين، موجهاً وأباً ومشجعاً لهم، لا يحب الكتابة (المتكلسة).. يرى بعين القارئ قبل الناقد والفنان، رايته أمامه: "لمن نكتب؟". الكتابة عشقه الأول والأخير، يمارس حميمياته مع أوراقه وقلمه (الباركر) ذو اللون الأسود، يهرب من الجميع إلى مكتبته التي بناها خلال حياته منذ الطفولة بالقرية، وكان حريصاً على تهذيبها دوماً وسقايتها بالإصدارات الجديدة، هارباً من غرف المنزل جميعاً وملتجئاً بالمكتبة التي نقل سريره وثلاجة أدويته إلها، وأصبحت هي عالمه السحري. أحب صمود إنسان القرية وحبه للعدل امرأة ورجلاً وكان يستهويه ذلك العالم الذي يحترم حق المرأة (إلى حد ما) ولا يراها ناقصة.. قرر ذات سنة أن يذهب للقرية علَه يرى إنسانها (الذي ذاب في المدنية) فلم يجده. فجيَر بحثه لتاريخ ذلك الإنسان وماعنته له الأودية والأشجار والآبار، ملتقطاً صوراً عدة مع الجبال والشروق والغروب، فرحا مستمتعا بما يراه مفيضاً لها بأسراره، وعندما أحس أن قريته الداخلية ستتشوه غادرها. بكثير من الحب كان يهدي الأطفال ويلعب معهم ويمازحهم ويشجعهم على الرسم أو الخط ويلح في رؤية ذلك ويوجه بحب الأب.. وكانوا يستغربون ذلك من (رجل كبير) كما تعودوا فالرجل هو الذي ينهر ويأمر ولا يبتسم. كان كحصن جنوبي في شموخه وكشجرة لوز خضراء في عطائه، استمدت منه القوة والهدوء وأن ما أُخذ بالقوة يُسترد بالهدوء والحلم. يشعر أحياناً بالصدأ أثناء الكتابة فيغرس رأسه في حضن عوده ويدندن (وغدًا تكبر يا ولدي وتريد الدمع فلا يجري...)، ويهرب منهما إلى ألوانه.. رائحة غرفته الممزوجة بالعطر مع الدخان والنسكافيه وموسيقى موزارت وبيتهوفن.... تلك الغرفة التي ضمت تاريخه وجغرافيته، بكت لمغادرته لها ومانعة عناقها لأي فرد آخر. إنسان كان يحلم بالعدل والحرية والعيش الكريم. ونختتم هذه الذكرى بحديث يقطر عذوبة ووفاءً من الشاعر الأستاذ أحمد آل مجثل عن صديقه المبدع عبدالعزيز المشري، مؤكداً على أهمية إنشاء جائزة تحمل اسم المشري لدوره الرائع في عالم القصة والرواية يقول آل مجثل: عاش في هدوء وغادر في هدوء لم يكن غير عابر في طريق الجمال والإبداعهو باختصار شديد عبدالعزيز مشري كتلة بشرية وقبيلة من النبلاء وجيش جرار من الحروف لمناصرة المسحوقين وفنارا للتائهين حين عودتهم من أعماق الغوص، كان المشري يرحمه الله واحدا من جيل لا أعتقد بأنه سيتكرر أو سيعيش مرة أخرى ليحكي لنا تلك الأيام من موت على الماء مرورا بريح الكادي وعطفا على الوسمية كان المشري بحارا تارة وقرويا تارة أخرى وبدويا يحمل عصاته خلف عيس يحدو ويشدو ويغني كان حالة إنسانية مختلفة عاش معاناة مريرة مع المرض ويبدو أن مرضه الاجتماعي كان أكبر من مرضه الذاتي، لم يكن المشري واحدا من هوامش الحياة كان متنا وكان قيمة أدبية وثقافية عرفته الأوساط العربية ربما أكثر مما ذاع صيته بين عشيرته، ومع ذلك فقد احتفلت بعض المنابر الأدبية بنتاجه وطباعته، في مشهدنا الثقافي المكرور والمبغوض دائماً ما تتكرر حالات البطولة والشجاعة بعد مغادرة المبدع الحياة فتأتي المبادرات والمواقف بينما كانت مختفية تماما عند حاجته إليها في أشد حالاته وأزماته وهكذا كان حال المشري والثبيتي وغيرهم كثير. عبدالعزيز المشري مثقف من بلادي وقاص وروائي يستحق أن يكون له معلم أو أثر في جائزة دائمة وذكرى حياته فمن يقوم على ذلك. الدميني: عاش عبدالعزيز رمزاً أنيقاً حاضراً بنبض حروفه كأثر لا يمحى الدويحي:المشري أول من جسَّد القرية الجنوبية بوعي وتأمل وكشف عن تحولاتها زيَّاد: تميز المشري بعمق الحس الإنساني رغم العلل الاجتماعية التي تستبيحه الغامدي: المشري له اتجاه خاص ومميز في الكتابة الروائية واستل من القرية جل نصوصه المرضي: وقع عبدالعزيز تحت سطوة المرض فجعله وقوداً يشعل منه ملكة إبداعه مشري:ظل أخي عبدالعزيز كحصن جنوبي في شموخه وكشجرة لوز خضراء في عطائه آل مجثل: المشري قبيلة من النبلاء وجيش من الحروف لمناصرة المسحوقين وفنار للتائهين