كلما تقدَّم بنا الزمان، اشتاقت ذاكرتنا للرجوع إلى الوراء، لتشتم عبق الماضي المفعم بالذكريات والحنين، ولتتذكر ما به من أوقات تمثل النشوة لأصحابها في بعض الأحيان، لاسيما إذا قارنا بين الأمس واليوم في كثير من جوانب الحياة. ففي الماضي كانت البساطة سائدة في العلاقات والمعاملات سواء بين الأهل والأقارب أو الأصدقاء ولا تشوبها المفارقات الاجتماعية أو الانتهازيات المادية.. أما الآن فالوضع تغيّر كثيراً عن السابق فتجد التبذير والمفاخرة وغيرها.. عندما نسرح في بحر الذكريات.. نتذكر تلك الأيام الخوالي الجميلة الصافية المتمثلة في بساطة العيش وراحة البال وصفاء النفوس.. فيجذبنا الحنين إليها بقوة. لقد كانت الحياة في الماضي تسير بسلاسة.. حياة يحيط بها الهدوء، وتحفها المودة والمحبة الصادقة، وتغلفها الأخلاق الحميدة، وكل ما هو طيب. في الماضي - ونحن نسرح في بحر الذكريات - نتذكر التعامل بين الجيران، حيث كنا نشعر ونحن صغار أن كل البيوت بيوتنا، وكل الجيران أهلنا.. الصغير أخونا والكبير أبونا وعمنا وخالنا.. وكان التآخي بين الجيران واضحاً، ولكن الآن الجار لا يعرف من هو صاحب المنزل الذي يشاركه الجدار نفسه!! أيضاً الأواصر بين الأهل والعائلة كانت أقوى. كانت التربية في الماضي مقتبسة من تعاليم الدين الإسلامي، وكان المجتمع يشارك الآباء في التربية، فالجار يربي وإمام المسجد يربي والعم والخال يربيان، فنتجت عن هذه التربية أجيال صالحة.. بينما في عصرنا الحاضر يرفض الآباء أن يشاركهم أحد في تربية أبنائهم ويعتبرونه متطفلاً، والأمر المناقض أنهم يسمحون للخدم بتربية أبنائهم بحجة كثرة مشاغلهم. بالنسبة للتعليم؛ كان المعلم في الماضي شخصاً ذا مكانة اجتماعية لا يجرؤ أحد التطاول عليه؛ فقد كان وليَّ أمرٍ وناقداً ومربياً، أما المعلّم اليوم فشخص جُرّد من كافة الصلاحيات ولم تعد له أي هيبة كما كان في السابق.. قلوبنا هي التي تغيرت، وبُعدنا وانشغالنا بأعمالنا أثّرا على علاقاتنا.. حيث صارت الأجهزة هي التي تربطنا في هذا العصر، أما في الماضي فالجار في وجه جاره كلما احتاجه، ويده بيده، والأخ بجانب أخيه في كل شيء.. قلوبهم طيبة بيضاء تداوي من حولها. ولكن مع مرور الزمن تغيّر البشر حسب معطيات حياتهم والمؤثرات الكثيرة التي تصادفهم ويحاولون مواكبتها فتغيّرت عند البعض قيمهم ومبادئهم؛ منهم للأحسن ومنهم للأسوأ.. وبعد كل ما تمّ ذكره فإن وقتنا الحاضر ليس بكل هذا السوء؛ فهو ينعم الآن بالتقدم التكنولوجي والتطور العلمي والطبي والنهضة الصناعية.. ومع كل حسنات الزمن الماضي إلا أننا لا نود العودة إليه، فقط نريد أن نتحلى بأخلاق أناسه الكريمة التي هي في الأساس نابعة من تعاليم الدين الإسلامي، ولابد لنا أن نبدأ بأنفسنا ومن ثم نربّي أبناءنا عليها.. أسأل الله أن يهدي الجميع لما يحبه ويرضاه..