بين سكون وهياج البحر وصهللة مكائن النفط.. حقب وأزمنة.. اختلفت فيهاالعقليات كما اختلفت الأنفس.. والفارق بينهما.. كالفارق بين الخنوع والرفض.. السكون والثورة.. وبين ذاك الزمن وهذا، هناك فتاتان.. الأولى تمثل الماضي بعبقه واستسلامه، والأخرى تمثل الحاضر بتمرده وعصيانه.. وبين تلك وتلك يوجد النصف الآخر الحائر بين الحنو والعصيان وبين الدوح والعمران.. فما الذي فقد وما الذي تجدد في فتاة الأمس واليوم، وما الذي يطمح إليه شبابنا في زوجات اليوم وأمهات المسقبل؟!.. لنرى.. من عبق الماضي.. من سكونه واستسلامه.. من بساطته وجماله.. ومن لملمة جيرانه ودفء أفراده، وحنان أيامه.. جاءنا صوتها يدغدغ المشعر ويهز فينا الأحلام ويحرك الشجون التي تاقت للسكينة وتمتمة البحر بعد أن أضناها صخب العيش ونزعة العمران.. (أم سعد) باسترجاعها لما فات تقول: (بقدر ما كانت حياتنا في الماضي صعبة ومضنية إلا أنها أجمل وأفضل من أيامكم هذه..) وتضيف: تربيت في كنف والدي وكنت المدللة لديه إذ كان يطلق علي اسم (زهرة الربيع) خصوصا أنني قد يتمت من أمي وأنا رضيعة لم أفطن الحياة بعد فرعتني أختي الكبرى التي كانت صارمة في تعاملها معي، ولا أنسى ليومي هذا قسوتها عليّ.. أما والدي فقد كان صارما وشديدا في الغالب إلا أنه مع ذلك كان عطوفا وحنونا، يرعى الأيتام ويشملهم بعطفه وكرمه. وتواصل أم سعد استرجاع ذكرياتها: عندما بلغت سن الحادية عشرة من العمر زوجني والدي من أحد الأيتام الذين كفلهم بتربيته ورعايته، وأذكر أن أمه كانت من أشرفت على تعليمي شؤون الطبخ وإدارة المنزل والخياطة وكأنها كانت تعدني لبيت الزوجية مع ابنها، وطبعا في هذه الأمور لا يؤخذ برأي البنت بل يزوجها والدها أو أحد اخوانها من أحد أبناء العم أو الخال أو أحد الأقارب فلذلك تزوجت باختيار والدي وكان مهري رداء جميلا، وفي اليوم الثاني من دخولي لبيت الزوجية عين زوجي في شركة أرامكو وكان معاشه آنذاك لي بالكامل، وعندما أنجبت عيالي الثلاثة عشر زاد العبء على زوجي خصوصا بعد افتتاحه دكانا صغيرا يبيع فيه حاجيات المنزل فكثرت ديونه وأخذت انحت على الصخر لأجلب نقودا أشرف بها على تربية عيالي وتعليمهم وتدبير شؤون المنزل، وذلك ببيع (البز) الأقمشة وكانت حياتنا بسيطة ورخيصة فبالعشرة ريالات كنا نشتري ما يلزمنا ويزيد من أطعمة وأقمشة ومستلزمات البيت وغيرها.. وفي النهاية فزمننا أفضل من زمانكم وأجمل.. ولم تختلف حياة (ثاقبة) كثيرا عن حياة (أم سعد)، غير أنها ربما تكون أوفر حظا من الأخيرة حيث كانت البنت الوحيدة والمدللة من أفراد الأسرة بالكامل، وعلى الرغم من كثرة طالبيها للزواج إلى أنه وبطبيعة الحال في ذلك الوقت كان لا يسمح إلا بزواج الأقارب لتصبح الأسر مركبة وممتدة، فقد تزوجت (ثاقبة) وعمرها 13 سنة ولم يسمح لها بعد خطبتها من رؤية زوج المستقبل إلا في ليلة الدخلة، وتذكر أنها عندما رأته بالصدفة في بيت أخيها احمر وجهها وجرت خارجة من المنزل لفرط حيائها ولم تذهب لبيت أخيها بعد ذلك إلا بعد الزواج.. وتتابع: كانت حياتنا صعبة في ذلك الوقت، حيث عدم توافر الماء والكهرباء فقد كنا نجلب الماء من أماكن بعيدة، ثم نحمله لمنزلنا سيرا على الأقدام. ولكثرة المشاغل والمسؤوليات البيتية خصوصا غسيل الملابس الذي يتطلب منا عناء ووقتا كبيرا فقد كنت غالبا ما أترك تربية الأبناء لبعض الجيران والأقارب.. أي تربية مشتركة، وأذكر أنني لم أنتقل لبيت زوجي إلا وأنا مهيأة تماما لمسؤوليات هذا البيت فقد تعلمت على يد والدتي فن الطبخ والحياكة، وبعد زواجي كانت النقود التي أحصل عليها جراء عملي أو حياكتي ملابس الجيران لي وحدي فزوجي يرفض أن يأخذ مني المال وكنت أتصرف فيه كيفما أشاء.. وتستطرد قائلة: في زمننا كانت لا تسمع للبنت كلمة وكانت لا تخرج من المنزل إلا لبيت زوجها وان خرجت فتكون في الغالب زيارات للجيران وللأقارب ولوقت محدود مع الالتزام بالحشمة والستر الكامل.. وتذكر لنا (ثاقبة) ما كان يتردد على لسان أخيها الأكبر عندما تأخرت في الزواج طبعا بمقياس ذلك الزمن حيث ينشد ويقول: (والله يا فحال بشكي لك الحال.. كل الناس عرسوا وأنا بها الحال!).. وتواصل حديثها قائلة: زماننا صعب والفتاة إن تزوج عليها زوجها تكتم غيظها وتبتلع غصتها وتسكت فليس هناك ما يحمي الفتاة أو ينصفها ولا مجال لأن ترد لبيت أهلها فهذا غير مسموح به وغير مستحب حتى من قبل الأهل أنفسهم فالرجل هو سيد ذلك الزمان والمكان.. وتؤكد السيدة (ثاقبة) ان الزمن الحاضر أفضل وأسهل ولكن الجميل في الماضي اللمة والصحبة والتآلف بين الجميع. ماذا تقول فتاة اليوم؟؟ بعد وعي الفتاة بحقوقها التي ترى ان على الجميع احترامها وان وجدت مخالفة لما يراه البعض، إلا أنها تصر عليها وتعلنها في وجه كل من يقف ضد هذه الحقوق ترى كيف هي فتاة اليوم؟.. (سمر الشعيل)، متزوجة وموظفة، تقول: عشت قبل الزواج في بيت والدي الذي احتواني أنا واخوتي على التعاون والمساعدة فنشأنا قادرين على تحمل المسؤولية.. وتواصل حديثها قائلة: كانت طموحاتي قبل الزواج تنصب كلها على مستقبلي وكيف سيكون إذ لم تكن هناك مسؤوليات كبيرة يوقعها والداي عليّ أنا واخوتي، فوالدي وفر لناسبل العيش الكريم ووالدتي تحمل مسؤولية البيت والاهتمام بشؤون المنزل وتربيتي أنا واخوتي، ورغم ذلك لم أخرج من بيت والدي الى بيت الزوجية إلا وأنامدركة أهم الأمور الواجب الإلمام بها كزوجة مقبلة على حياة أخرى تتحمل مسؤوليتها وحدها، فقد تعلمت على يدي والدتي شؤون الطبخ وتدبير المنزل وكذلك التربية لكوني الابنة البكر لوالداي فشاركت في تربية اخواني الصغار.. ورغم ذلك صعقت بانتقالي لبيت الزوجية بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقي وبدأت طموحاتي تتجه باتجاه آخر.. تجاه بيتي وزوجي وأبنائي في المستقبل القريب إن شاء الله.. وحول زوجة الأمس وزوجة اليوم، تقول السيدة (سمر): الزوجة في الزمن الماضي باعتقادي كانت أوفر حظا من الزوجة في واقعنا هذا، فقد كانت مسؤولياتها محدودة وواضحة.. أما نحن فنتحمل مسؤوليات البيت والزوج والعمل معا، فالزوجة التي لا تساعد زوجها اليوم تكون خاسرة في النهاية إن كانت تطمح لبيت يأويها هي وزوجها وحياة مستقلة ومستقبل مرموق لها ولأبنائها.. فالزوجة في هذا الوقت متعبة نفسيا لا يمكنها الفرح براتبها فوراءها مسؤوليات تفكر فيها خصوصا مع غلاء المعيشة والتضخم المالي والرواتب الضعيفة الباقية على حالها!!.. ففي السابق راتب الزوج وحده الذي لا يتجاوز بضعة مئات يكفيه لتوفير العيش الكريم له ولأسرته ويعيشهم في عز ودلال.. أما الآن فراتب الزوج على راتب الزوجة ومع هذا التضخم المالي الذي هو في ازدياد يوما عن يوم لا يكفي إلا لسد بعض الأساسيات الضرورية ومتطلبات العصر كثيرة وصعبة التحقيق في ظل هذه الظروف. وتضيف: إن رجال هذه الأيام لا يعرفون كيف يخططون لحياتهم دون الاستعانة بالزوجة وبعضهم من يعيش حياته في ترف وبذخ قبل الزواج ثم ما إن يرغب في الارتباط إلا وأمواله قد هدرت ولم يتبق ما يعينه على تحمل المسؤوليات الجديدة فتضطر الزوجة لمعاونته وربما تقع المسؤولية الكبرى علىعاتقها أكثر من الزوج نفسه؟! ومن جانب آخر تحدثنا السيدة (بدور محمد) ربة بيت، وتقول: عشت في جو من الرفاهية حيث لم يبخل عليّ الأهل أنا واخوتي بشيء وهذا ما جعلنا نطلب المزيد دون حساب لهذا الوالد المسكين ودون احساس بقيمة القرش والشقاء الذي يتكبده والدي في سبيل الحصول عليه، وهذا الدلال طال حتى الأمور البيسطة لشؤون المنزل الواجب تعلمها، فقد كان يمنع أمي من اشراكنا في تدبير المنزل أو الطبخ خوفا علينا.. ولذلك خرجت من بيت والدي لبيت الزوجية بجهل تام للأمور البيتية خصوصا انني تزوجت في سن مبكرة 18 سنة وبعد الزواج اكتشفت مدى جهلي بأمور الزواج وعرفت قدر المسؤولية الملقاة على عاتقي والتي كنت غير مدركة بها بسبب صغر سني ولذلك تمنيت لو أني تزوجت في سن العشرين كي يمكنني تفهم الحياة أكثر. وتوالى السيدة (بدور) حديثها إلينا قائلة: أذكر أنني في بداية حياتي الزوجية كنت أجمع ملابسي وملابس زوجي التي بحاجة لغسيل وأذهب بها لبيت والدي لغسلها هناك من فرط جهلي حتى بهذه الأمور السهلة والبسيطة!!.. وتضيف: حياة الماضي أحسن برأيي من اليوم حيث كانت المرأة كما سمعت تنجب 12 ولدا أو يمكن أكثر ومع ذلك كانوا يحيون حياة هنيئة ودون الحاجة الى عمل المرأة ومدخولها.. أما الآن فالحياة تتطلب المشاركة الزوجية في تحمل المسؤولية خصوصا اذا كان راتب الزوج ضعيفا.. ومن هنا شعرت بقيمة كل قرش وبدأت أحسب ألف حساب قبل طلب المال من زوجي.. فالأسعار نار! ومتطلبات الحياة المدنية أكثر مما قبل، فإذا ما فكرت الزوجة في الاستقرار والاستقلال ببيت لهاوحدها لابد أن تفكر في العمل لمعاونة زوجها. رأي الشباب ولتعرفناعلى مدى عمق هذا التغيير الذي طرأ على حياة الفتاة وأثره على مستقبلها بصورة خاصة وعلى المجتمع بصورة عامة ارتأينا مشاركة بعض الشباب للتعرف على وجهة نظرهم فيما إذا فكروافي الزواج فأي فتاة سيختارون.. فتاة الأمس أم فتاة اليوم.. أم أي فتاة؟!. (هاني الجبر)، موظف، يقول: لكل زمن خصائصه وسماته التي تنطبع ويتطبع عليها أناسه، ففتاة الأمس هي قمة العطاء في زمانها وكذلك بالنسبة لفتاة اليوم في زمانها هذا.. أما الفارق بينهما فهو ان فتاة الأمس أكثر تقديرا وتقديسا للزوج وللأسرة بشكل عام وهي أقدر فهما للحياة وتشارك زوجها وتتعامل معه في كل الأمور.. أما فتاة اليوم فأصبح شغلها الشاغل الركض وراء الموضة ومتابعة الفضائيات والمكالمات الهاتفية بالإضافة إلى التنزه والخروج للمجمعات.. فبنات الأمس أقدر على تحمل المسؤوليات وتفهم الزوج وهذا لا يمنع من مدى أهمية الثقافة والعمل بالنسبة للفتاة كي تنمي شخصيتها وتملأ وقت فراغها وتشعر بكيانها وإن ابتغت مساعدة زوجها فلا مانع من ذلك ولكن دون إكراهها على شيء.. فالفتاة المثالية كزوجة في نظري هي مزيج من فتاة الأمس وفتاة اليوم وإن لم تكن طباخة ماهرة فهذا لا ينقص من مكانتها في شيء فأنا طباخ ماهر وسأعلمها الطبخ الذي يوافق ذوقي! أما (علي البيشي) طالب جامعي فيقول: إن بنات اليوم أفضل فهن متعلمات ومثقفات وهذا شيء ضروري إذ ينعكس على تربيتهن للأولاد بعد ذلك وعلى تعاملهن مع أزواجهن.. كما يفضل أن تكون الفتاة موظفة، أولا: لتملأ وقت فراغها وتشعر بوجودها، وثانيا لمساعدة زوجها فالحياة في غلاء مستمر ومتطلبات الحياة الأساسية والثانوية تتطلب المشاركة من كلا الزوجين في تحملها والإيفاء بها.. أما اذا كانت الفتاة مثلا لا تعرف الطبخ أو غيرها من أمور البيت فهذه أشياء ثانوية من الممكن تعلمها وتغييرها مع الزمن ومع العشرة الزوجية. بينما ينصف (عادل الدغام) موظف في اختياره ويوازي بين فتاة الأمس والحاضر، ويقول: أفضل في فتاة الأمس مداراتها لزوجها وتقديرها له واهتمامها به أفضل اهتمام ومراعاتها لأمور بيتها وسكنها، ولكن لا يمكنني الارتباط بها لمجرد ذلك فالانسجام بين الزوجين شيء ضروري وهذا يتطلب توافق تفكيرهما ومستواهما الفكري والثقافي وهذا ما لن أحصل عليه إلا عند فتاة اليوم. ويضيف: بنات اليوم غالبا ما يفكرن في حياتهن الزوجية بعد التعليم والعمل وهذا له سلبياته وإيجابياته تجاه تربية الأولاد والعناية بالمنزل. وعن نفسي، إن كنت ليس محتاجا لمساعدة زوجتي وعملها فالأفضل أن تجلس في البيت خصوصا ان كانت ساعات دوامها طويلة فتتفرغ بذلك لبيتها وأولادها وهذا هو دورها وواجبها الأساسي. كلمة أخيرة وكما لكل زمان خصائص وسمات فلكل فتاة طباعها ومحاسنها.. وإن كانت الفتاة المتعلمة المثقفة هي سمة من سمات المجتمع المتحضر المتمدن إلا أنه يبقى في ركن ما منه بحاجة لانهزام وانكسار الماضي بحنانه ودفئه.. ببساطته وسكونه.. فحبذا لو اجتمعت هذه القوة الطاغية بهذا النهر الرافد لإيجاد فتاة هي فعلا مزيج من الماضي والحاضر.. مزيج خاص يربى في كنفه الأبناء بحب وأمان وتنشأ في ظله الأسرة بعيدة عن التخبط.. فهذا دوركم أيها الآباء والأمهات أولا.. وهذا هو واجبك أيتها الفتاة ثانيا، إذ لا مجال للتنازل عن فطرة فطرك الله عليها فزينيها بالحاضر والمستقبل.. لكن إياك والتعجرف فهو بداية الانحدار.. وكان الله في عونك يا عماد الماضي والحاضر والمستقبل.