لست خبيراً في الشعر وبحوره، ومع ذلك أميل الى القصيدة المقفاة أكثر من القصيدة النثرية الحديثة (فالأولى على الأقل تتفوق على الثانية بسردها الموسيقي وإيقاعها المتوازن).. ولكن هذا لا يعني عدم وجود قصائد نثرية جميلة حجزت لنفسها مكانة قوية في أرشيفنا الأدبي رغم فقدها لميزة الإيقاع الموسيقي الذي تتميز به القصيدة التقليدية.. ومن هذه القصائد الحديثة "قارئة الفنجان" للشاعر السوري نزار قباني التي حققت شهرة واسعة بعد أن شدا بها الفنان عبدالحليم حافظ عام 1976.. وللاستمتاع بهذه القصيدة تحتاج لتخيل امرأة عجوز تقرأ فنجان عاشق حيران فتقول له بعد طول كتمان: الحُبُّ عَليكَ هوَ المكتوب يا ولدي، قد ماتَ شهيداً من ماتَ فداء للمحبوب فنجانك دنيا مرعبةٌ وحياتُكَ أسفارٌ وحروب.. ستُحِبُّ كثيراً وستعشقُ كُلَّ نساءِ الأرض ولكنك سترجع كالملكِ المغلوب بحياتك يا ولدي امرأةٌ عيناها، سبحان المعبود فمُها مرسومٌ كالعنقود وضحكتُها أنغام وورود والشعر الغجري المجنون يسافر في كل الدنيا لكنَّ سماءكَ ممطرة وطريقكَ مسدودٌ.. مسدود فحبيبةُ قلبكَ.. يا ولدي نائمةٌ في قصرٍ مرصود والقصرُ كبيرٌ كلابٌ تحرسُهُ.. وجنود وأميرةُ قلبكَ نائمةٌ من يدخُلُ حُجرتها مفقود من يطلبُ يَدَها من يَدنو من سورِ حديقتها.. مفقود من حاولَ فكَّ ضفائرها يا ولدي مفقودٌ.. مفقود - ثم تتوقف قليلا لتعيد النظر في الفنجان وتقول: بصَّرتُ.. ونجَّمت كثيراً لكنّي لم أقرأ أبدا فنجاناً يشبهُ فنجانك لم أعرف أبداً يا ولدي أحزاناً تشبهُ أحزانك مقدُورُكَ.. أن تمشي على حدِّ الخنجر وتَظلَّ وحيداً كالأصداف وتظلَّ حزيناً كالصفصاف. مقدوركَ أن تمضي أبداً في بحرِ الحُبِّ بغيرِ قُلوع وتُحبُّ ملايينَ المَرَّاتِ وترجعُ كالملكِ المخلوع - ثم تبلغ المأساة ذروتها حين تقول له: وستعرف بعد رحيل العمر أنك كنت تطارد خيط دخان! وكان عبدالحليم حافظ قد تنبه لجمال هذه القصيدة حين قرأها في أحد دواوين نزار قباني فاتصل به وأقنعه بتغيير بعض المقاطع لتتناغم مع الحان الأغنية (التي كلف بها محمد الموجي).. ورغم اعتزاز نزار قباني بقصائده إلا أنه وافق على طلب عبدالحليم بسبب إعجابه الشخصي به.. ومن الأبيات التي تم تغييرها قوله: يا ولدي قد مات شهيداً من مات على دين المحبوب إلى: يا ولدي قد مات شهيداً من مات فداءً للمحبوب وفي المقطع الثالث يقول نزار: فحبيبة قلبك يا ولدي نائمة في قصر مرصود وكلاب تحرسه وجنود وتم الاتفاق على حذف عبارة "وكلاب تحرسه وجنود"... أما الأهم من تغيير المقاطع فهو اتفاقهما على ضرورة إضافة أبيات جديدة لإكمال الأغنية (لم تذكر في ديوان نزار الأصلي) هي: ستفتش عنها يا ولدي في كل مكان وستسأل عنها موج البحر وفيروز الشطآن وتجوب بحاراً وبحارا وتفيض دموعك أنهاراً وسيكبر حزنك حتى يصبح أشجاراً وسترجع يوماً يا ولدي مهزوما مكسور الوجدان وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان ما أصعب أن تهوى امرأة يا ولدي ليس لها أرض أو وطن أو عنوان!. أيها السادة؛ كيف يمكن لأحد ألا يعجب بهذه القصيدة .. كيف ينتهي التقاء العمالقة الثلاث (نزار وحليم والموجي) دون تقديم تحفة فنية رائعة نعرفها اختصارا ب"قارئة الفنجان".