الخطاب الإصلاحي .. وتضليل البيان التالي..! قبل أن يسارع التيار الإصلاحي في السعودية إلى تفكيك الخطاب المتشدد ونقده عليه أن يبادر بالدفاع عن نفسه ! ، لأنه أمام محاولة لدس مصطلح التنوير في دسمه ليظهر كواجهته الرسمية، برغم أن هذا المصطلح يبدو فضفاضاً للغاية على الخطاب الإصلاح ولا يعكس حقيقته، فهذا المصطلح المستورد سينتقل بحمولاته الثقافية ليحجب النور عن عين المتلقي البسيط ويتيح للباحث القناص بأن يصطاد في ماء التنوير العكر ليلطخ به المعاني المضيئة في تيار الإصلاح الناشئ! ، مما يهدر طاقاته الفكرية ويستنزف جهوده البناءة في تنظيف الشوائب التي علقت به جراء هذا التسمية الظالمة..! في برنامج "البيان التالي" قدم الأستاذ عبدالعزيز قاسم وفقه الله عنواناً موهماً لتيار الإصلاح ، ثم أردفه بتصويت يكرس هذا التوهيم ، فوضع التيار الإصلاحي أمام خيارات مرة كان لابد أن يلعقها الإصلاحيون رغماً عنهم ! ، فكان العنوان "تنويريون .. أم معتزلة جدد..؟" ، يضع الضيف أمام خيار التنوير التغريبي أو الاعتزال ! ، الأمر الذي جعل الضيف يهرع إلى التنوير خشية الاعتزال تواطئاً مع ما تواضع عليه الناس وإن لم يكونوا قد فعلوا بعد ! ، وبرغم انه ابتداءً رفض المصطلحين جملة وتفصيلاً إلا انه عاد لينغمس غافلاً في متاهات مصطلح التنوير مرات عديدة في أثناء حديثه ، وهو ما أخذه عليه الأستاذ ماجد البلوشي بسطحية متناهية ! ، فأوقع المتلقي البسيط أمام وهم التناقض والمكر والالتفاف على الحقائق ! ، وإن أجاد الدكتور سليمان الضحيان في الرد عليه وأفاد ! ، غير أنه أسهم الدكتور في تكريس التضليل عندما تنازل عن مصطلح الإصلاح غير مرة..! ثم جاء التصويت ليضعنا أمام إيهام جديد للمتلقي وتكريس لتهمة التغريب على التيار الإصلاحي ، فكان سؤال التصويت "أفهم الخطاب التنويري السعودي على أنه؟" متماهياً طبعاً مع العنوان التوهيمي ، ثم جاءت خيارات التصويت لتجذر هذا التضليل مجدداً ، فكان الخيار الأول "خطاب إسلامي بروح العصر" يلقي في روع المتلقي البسيط أنه أمام القالب العصراني المفبرك لاحتواء الجموح التجديدي ، مع ما يعتريه من تهم ساذجة بالانسلاخ عن الموروث وترسيخ العقل كمرجعية قضائية عليا تحكم على النصوص والثوابت مما يوحي بأنه أمام قالب العصرانيون أو العقلانيون أو المعتزلة الجدد..! ، وكان من المهنية والعدل أن تفصل عبارة "بروح العصر" عن الخيار الأول ليبقى "خطاب إسلامي" وحسب. وأما الخيار الثاني (خطاب تغريبي بلبوس إسلامي) فقد كان منصفاً للغاية نزولاً عن مناقضته للخيار الأول ، وإن كنت فضلته على هذا النحو "خطاب تغريبي" وكفى ، بغض النظر عن إسلامية ظاهره من عدمها ، وبرغم أن هذا الخيار كان فخاً يكشف حجم الوهم الذي يعيشه مناوئو الخطاب الإصلاحي إلا أنه يبدو منصفاً إذا وضع في مقابل الخيار الأول ، لتستوي كفتي التصويت تماما! ، وهو ما لم يحققه الخيار الثالث الذي مال بكفة المهنية والعدل إذ تعاضد مع الخيار الثاني وهو يقضي بمقتضاه حتماً ! ، فحتى ولو كان خطاباً مدنياً صرفاً فهو يصب في النتيجة الوهم ، وهي تهمة التغريب ! وأنا وإن كنت لا أشكك بحال في مقاصد الأستاذ القدير عبدالعزيز قاسم وقد عرفناه نزيهاً صادقاً شفافاً متقبلاً للنقد إلا أني لا أخفي استيائي من حجم الخطأ المهني الذي وقع فيه الرجل وهو يضع واحداً من أهم التيارات الفكرية العميقة والواعدة في قفص الاشتباه دساً للمصطلحات المستوردة أو المقولبة في أحشاءه بكل بساطة وتلقائية ! ، خاصة أنه ربما يدرك مدى استماتة خصوم هذا التيار في قولبة المخالف وتصنيفه والإيحاء بأنه مادة مستوردة لاختراق الحالة الإسلامية في السعودية ، أو حصان طروادة يمتطيه المشروع التغريبي ليحقق من على ظهره أهدافه ! ، متصورين ومصورين لأتباعهم بأن كل فكرة إصلاحية تجديدية وسطية يطلقها هذا التيار هي مجرد دسيسة متلونة ترتدي قناع الإصلاح والتدين وتخفي وجهاً عبوساً قمطريراً هو وجه التنوير التغريبي ! ، ولعل أستاذنا القدير قاسم يعلم بأن المتلقي البسيط سيحكم على تيار الإصلاح بكل أفكاره البناءة بمجرد أن يبحث في محركات البحث عن كلمة (تنوير) ليكتشف بأنه أمام مصطلحات العقلانية والعلمانية ومناهضة الدين ! ، ثم يقوم بإسقاطها هكذا وبكل بساطة على الخطاب الإصلاحي..! فكان الواجب في رأيي أن يضع العنوان مناصفة بين رأي التيار الإصلاحي ضيفه على وجه الخصوص ومخالفيه فيكون العنوان "إصلاحيون .. أم معتزلة جدد..؟" ، ويكون التصويت مناصفة فيكون الخيار الأول "خطاب إسلامي" بينما يكون الخيار الثاني "خطاب تغريبي" ، ولا حاجة لتعضيد الثاني بالثالث مطلقاً ! ، وبرغم أن البعض نظر لنتيجة التصويت على أنها ساحقة لصالح الخطاب المتشدد إلا أن هذه النتيجة لا تعكس واقعاً بالضرورة ، ولا تبشر بالخير لمن توافدوا على موائد الاحتساب يرومون نصراً زائفاً في المعركة الخطأ ! ، لأسباب عدة : الأول : أن الخيار الثاني "خطاب تغريبي بلبوس إسلامي" الذي اكتسح التصويت لا يعكس الواقع بقدر ما يعكس حجم الجهل والوهم والتضليل الذي مورس ضد هذا الخطاب ، عندما تم إقحامه مع العلمانية أو تصويره كأحد مقدماتها المرحلية حتى باتت مصطلحات الإصلاح والتنوير والتجديد والوسطية في ذهن المتلقي البسيط أشبه ما تكون بالحديث عن العلمانية ذاتها ! ، وهو ما يشي بشعور عميق بالخوف منه لدى من عجز عن فهمه أو مجاراته أو تعمد تشويهه ، ربما لأنه ماض ٍ في سحب البساط من تحت أقدامهم ، و مستمرئ في الجرأة عليهم ، عبر ما يضخه من تساؤلات بسيطة ومنطقية زلزلت الأرض من تحت المارد التلقيني وحاصرته في زاوية ضيقة محرجة وكتمت أنفاسه و عرت سطحيته وانتقائيته ! ، والمراهنة على التجهيل والتضليل والتشويه في عصر الانفجار المعلوماتي رهان لا محالة خاسر ! ، كما أن هناك الكثير ممن يختلفون مع الخطاب الإصلاحي أو يرفضونه ، يدركون تماماً بأنه خطاب إسلامي في ظاهره وباطنه ، فلم يجدوا طريقة للتعبير عن رفضهم لهذا الخطاب الإصلاحي سوى عبر هذا الخيار ، فقاموا من حيث لا يريدون بتكريس هذا الوهم ! ، فكانت الغاية تبرر الوسيلة..! ثانياً : أن النتيجة على ما فيها من التضليل والتدافع الإحتسابي لا تلغى مستوى الخطورة على الخطاب المتشدد ، لأن حصد نسبة 8% والخطاب الإصلاحي لا يزال في مقتبل العمر يعني تياراً عريضاً عندما تتحول هذه النسبة إلى أرقام بشرية نسبة وتناسباً مع عدد السكان ، مع علمي بأن هذا الإسقاط لا يصح بالضرورة ولكنه المعيار المتوافر حالياً ! ، ثم يعني تياراً كاسحاً كلما تقادم الزمن خاصة وأنه في طور التمدد بينما يكون الخطاب المقابل في طور الانكماش ! ، فهذا الخطاب الإصلاحي الوسطي يقتات على جسد الخطاب المتشدد ، فكلما تقلص التشدد تمددت الوسطية. ثالثاً : أن هذه النتيجة لا تعكس واقعاً بالضرورة ، صحيح أن الخطاب المتشدد المتترس بالايهام وتغييب الوعي والقولبة والهجوم الحاد والتجهيل المتعمد لا يزال يشكل التيار الأعرض في السعودية كما بدا واضحاً في نتيجة التصويت ، غير أن هذا التقدم الباهر لا يدور على أرض الواقع وإنما في سماء التنظير ! ، فعند النزول لأرض الواقع تجد بأن الأغلبية الساحقة أغلبية وسطية ترفض فتاوى التنطع وتلفظها فطرة ، وتميل إلى قضايا الإصلاح الكبرى ، ابتداء بالعدل والمساواة وتكافؤ الفرص واستقلال السلطات والمحاسبة والمعاقبة والرفاهية والعيش الكريم وغيرها من القضايا التي تلامس جوهر الخطاب الإصلاحي تحت سقف الشريعة الإسلامية الغراء ، والتي فشل الخطاب المتشدد في تحقيقها أو حتى طرحها بجدية إن لم يساهم في قمعها وتشويهها ! ، وليس انتهاء بملامسة الجرح الإسلامي في الخارج من قضايا ممانعة الاحتلالات ودعم المقاومات وتعزيز روح المساهمة فيها ، وهي التي أذرع فيها الخطاب المتشدد فشلاً عندما ساهم في قمع الفكر السياسي في الخارج والداخل ، و انتقى فرص الإسهام في قضايا الأمة عبر ما يخدم التوجه الرسمي وحسب ، وهذا إنما يكشف عن مستقبل مشرق لهذا الخطاب الإصلاحي الذي يتواءم مع ضمير المجتمع ويعزز تفعيله مع قضايا الأمة المصيرية وهموم المسلمين وتطلعات الداخل ، ويساهم في دمجه مع التيار الوسطي العالمي الواسع الممتد بعد أن كان هذا المجتمع يبدو حالة استثنائية في سياق المجتمعات الإسلامية . إن ملامح الخطاب الإصلاحي واضحة لمن يتحرى الصدق ويروم الحق ، فهو إسلامي حتى النخاع في ظاهره وباطنه ، ملتزم بالنص ومقيد بالرؤية الإسلامية الوسطية ، مندرج تحت شريعة الإسلام ، منسجم مع قضايا أمته الإسلامية ، منخرط في ترسيخ القيم والأخلاق ، متطلع لرفع المظالم وتحقيق الحقوق ، منفتح على التجارب الإنسانية البناءة ، متسامح مع المتسامحين ، لدود مع المعتدين ، وأي بهتان أن يتم أخذه بجريرة بعض المنتسبين إليه ظلماً وزوراً ، وأي بهتان أن تتم محاكمته على شروط خصومه ، وأي منهجية يطالبه البعض باختلاقها ؟ ، وكأنه خطاب منفلت هائج لا يحكمه منهج ولا ضابط ، متجاهلين منهج الوسطية والاعتدال الذي تكرس بوجود هذا الخطاب ، متناسين بأنه خطاب وسطي إصلاحي تجديدي يقوم على النقد البناء والمراجعات ، ولا يقوم على هدم مناهج الآخرين أو تقويض منجزاتهم . طيب الله اوقاتكم.. منصور القحطاني [email protected]