فمتى عرف الشعر وكيف صعد به هذا الجنس وجعله غيرهم بمثابة الإلهام الخارق لهم دون سواهم حيث يروى ان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل كعب الأحبار عن أي ذكر للعرب في التورات فقال : (نجد في التوراة قوما من بني اسماعيل أناجيلهم في صدورهم لا نظن الا انهم العرب) او كما قال .. والحقيقة أن العرب من شدة هيامهم بالشعر وتعلقهم به وموالاتهم لتفرده وانه منتهى المعرفة قد حاكوا حوله هالات لا تنتهي من التعظيم وجمعوا ما وعوا من الأساطير والخرافات حول الشعر والشعراء فجعلوا للشعر جناً وللشعراء شياطين يلهمونهم وينطقون بألسنتهم ونظموا على السنة كل ما خلق الله شعرا حتى أبى البشرية آدم عليه السلام جعلوا له شعرا عربيا لا يشذ عن سنن الشعر وأعاريضه، والمقام لا يتسع لايراد كل ما نريد ان نمثل له ولكن من أراد الاستزادة فعليه بالمراجع التي تهتم بهذا الجانب. أما عن بدايات هذا الشعر وكيف عرف فالمؤرخون للأدب يذهبون في ذلك مذاهب شتى على أن الأكثرية يقولون ان الشعر العربي تطور عن الرجز وأن الرجز تطور عن السجع وان النظام الحاصل لأواخر السجع هو ما جعله موافقا للنغم ولكون التطور رتيبا ومتراخيا فقد كان العامل المساعد لهذه الأرتام المتوالية هو سير الابل لهذا كان الرجز هو الخطوة نحو الشعر.. انظر : بروكلمان 1/52.. ومن هذه النظرة نرى أن أحد العروضيين قد عد الرجز غير الشعر لمقاربته من النثر، وظل الشعر كذلك حتى هلهله مهلهل بن ربيعة في القرن الخامس الميلادي، اذا الفترة ما بين مهلهل وبين تكونه مفقودة كذلك الفترة ما بين مهلهل وامرىء القيس بن حجر غير متداركة، حيث يورد امرؤ القيس في معلقته بيتا يرجح الرواة على انه لشاعر متقدم على امرؤ القيس هو : (ابن حذام الطائي) وهذا البيت هو: كأني غداة البين حين تحملوا لدى سمرات الحيِّ ناقفُ حنظلِ وقد قال امرؤ القيس في قصيدته الميمية المعروفة يذكر ابن حذام هذا: عوجا على الطلل المحيل لعلنا نبكي الديار كما بكى ابن حذام لكن المهم من هذا كله ان الشعر العربي لازال يكتنفه الغموض، ما هي اولياته؟ وكيف تدرج حتى وصل الى ما وصل اليه من هذا النظام العجيب؟ هل كان متأخرا بالفعل ووصل الينا دفعة واحدة؟ أم انه مر بمراحل وبعقود من السنين حتى وقف على ساقيه كما ننشده الآن؟، وهل من المعقول ان وجوده يتحدد بمائة وخمسين قبل ظهور الاسلام؟، ام ان للأسواق التي كانت تعقد كعكاظ وذي المجنة وحضرموت وحجر وحباشة وصنعاء وغيرها دخل في تهذيب اللغة وإحكام تعابيرها ومن ثم تحديد صياغة الشعر واتقان القصيد، قد يكون هذا وقد يكون غير ذلك ولكن هناك شيء أوعى وأدل على الحقيقة فيما لو تنبه الباحثون اليه وهو الاستعانة بعلماء الآثار ودراسة ما يمكن أن يكتشفوه من الكتابات في الجزيرة العربية عرضا وطولا، بقي أن أذكر في هذه الناحية ما يومىء اليه البعض من ان الجزء التاسع من الاكليل للهمداني وهو حتى الآن مفقود فيه كثير من المؤشرات على بدايات اللغة العربية والشعر وهو رأي لا نجزم به لكنه يظل رأياً، ومع اننا نعرف ان هناك من يلحن في نواح كثيرة من البادية في العصر الاسلامي الاول وان اللغة لم تكن صافية فصيحة إلا ما ندر وان هناك لهجات ومدلولات ومسميات مختلفة لكثير من القبايل التي ترد بالطبع تلك الأسواق أو لما هو من شؤونهم الأخرى، ويروي لنا الرواة ان أمية بن الاسكر احد وجهاء كنانة قد جاء الى سوق عكاظ وضرب له قبة معلمة في وسط السوق ومعه زوجته وأهله وفيهم فتاة حسانة والحسانة أحسن من الحسناء فلما تكاثر الناس عليه.. قال : مهر هذه الفتاة لأفخر من ورد السوق فتحاشاها الكل الا رجلان هما عامر بن الطفيل العامري فارس هوازن ويزيد بن عبدالمدان بن الديان المذحجي فجلسا اليه فقال افتخرا. فقال يزيد افتخر يا عامر وكان يزيد أصغر سنا من عامر قال عامر بل افتخر أنت لأنك ملك، فقال يزيد : يا عامر هل علمت انكم قد تم غزية إلينا فقال : لا، قال : فهل كنا نفعل قال : نعم، قال فهل ذهب شعراؤكم إلينا فمدحونا قال : نعم، قال فهل ذهب اليكم شعراؤنا فمدحونا.. قال : لا، فالتفت يزيد الى أمية والد الفتاة وقال : تعلم أن ابن الديان مكلم العقاب وصاحب الكتيبة ومن اذا ارسل يديه قطرت دما وان فحصهما سالت ذهبا فإن شئت ان تزوجني والا فشانك وعامر.. قال أمية : بخٍ بخٍ مرعى ولا كالسعدان.. فذهبت مثلا.. وايرادنا لهذه القصة وان تصرفنا فيها تأكيدا على ما كان يدور من الانتقاء والايجاز والبحث عن الحكمة ودليلا آخرا على ما بلغ اليه الاسلوب ومدى ما بلغت اليه ثقافتهم من التحكم في العرض وايراد المعلومة.. ومع ذلك لا نعرف فيما ورد من المراجع أن هناك محكما للشعر سوى النابغة الذبياني في عكاظ بالذات وليس لما كان يدور ضابط يقننه او ينتقيه او يدونه وانما هي فلتات لا تخرج عن هذا الطور الأمر الذي يجعلنا نقول : ان القرآن الكريم والسنة المطهرة هي التي قعدت اللغة العربية وجعلتها مستوعبة منداحة وأخذت من أساليبها لأساليبها ومن ثم اهلتها لذروة الاعجاز.. يقول الامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه : (ما كنا نعرف الهمز حتى نزل القرآن الكريم)!! أما الآية الخالدة هداية وثقافة فهي كتاب الله القرآن الكريم قول الحق جل وعلا وعلومه والحديث الشريف وقمة بيانه، وهذا لعمري هو التراث الذي خرج المعرفة وأصل العلوم التي سارت في كنفه أو ما واكب ذلك فيما بعد من السير والتاريخ والمعارف الأخرى .