لم أفهم سر التعلق الشديد الذي أبداه الكاتب الأميركي مارك توين تجاه “ويقيز” إلا حين زرت هذه البلدة النائمة باطمئنان في أحضان جبل “ريقي” الذي يبدو في وقفته الشامخة يحرس هدوء سفوحه بحنان أبوي عجيب، مزهواً بالمكانة التي يتربع عليها في وسط سويسرا التي يحلو لها أن تفخر ب “ملك الجبال”، وهو اللقب الذي يحمله “ريقي” بين أبناء شعبه. ولكي أمعن في اقتفاء أثر ذلك الكاتب الشهير، اخترت أن أبيت في جناح يحمل اسمه ضمن فندق “بارك ويجيس” الذي يستلقي باسترخاء على أطراف بحيرة “لوسيرن” محاطاً بحدائق تبدو أشجارها من شرفة غرفتي مزهوةً بالعشب المنبسط حولها باخضرار ساحر. “التسلق” في أسهل صوره! الشمس هنا تشرق على مهلها، لذلك طالت مدة تناولي لقهوة الصباح منتظراً أن ينتشر الضوء في أرجاء المكان، وكانت هذه الدقائق الماطرة فرصة لي كي أتأمل مشهد الصبية والفتيات الذاهبين إلى المدرسة يسيرون بانتظام كأنهم في كتيبة عسكرية دون أن يقودهم أستاذ مدرسة ولا ولي أمر! أخبرت السيد مارك، مدير الفندق الذي تصادف أن اسمه يوافق اسم الكاتب مارك توين، أني أعتزم تسلق جبل “ريجي”، مع أن استخدامي لمفردة “تسلق” في هذا السياق ضرب من المجاز اللغوي بطبيعة الحال، لأن الطريقة التي وصلت بها إلى هناك بعيدة تماماً عن روح المغامرة التي قد توحي بها هذه الكلمة الصاخبة، لكن الرجل، الذي أبدى استعداداً لمساعدتي، أخبرني أني على موعد مع فردوس أرضي سأقف على عتباته مذهولاً من هول الجمال الذي سيتبدى أمامي من قمة ترتفع نحو 1700م فوق مستوى سطح البحر، وهي القمة التي اعتلاها مارك توين نفسه وألهمته فصلاً من كتاب شهير لم يتردد في التصريح فيه بأن هذا المكان هو الأكثر سحراً على الإطلاق. وحين أدرك مارك أن المسألة لا تعدو زيارة استطلاع، وأن كلمة “تسلق” محض مبالغة لم أكن أعنيها على وجه الدقة، أرشدني إلى دليل سياحي يصطحبني في النزهة، هو الشاب “ماركوس”، أحد أبناء المنطقة المهووسين بأرضها وجبلها وطبيعتها الأخاذة، فطريقته في الحديث تفضح عشقه الشديد لكل مترٍ من هذا المكان الذي يحفظ تاريخه وتفاصيله عن ظهر حب! محطة القطار الجبلي الذي سيقلنا إلى قمة “ريجي”، لا تبعد عن الفندق سوى بضع دقائق بالسيارة، والقطار نفسه هو أول وسيلة نقل حديثة تتحدى وعورة الجبال في أوروبا كلها، فقصة بنائه التي أخبرني بها “ماركوس” تثبت حجم التحدي الذي واجهه المهندس “نيكلاوس ريجينباخ” حين قرر أواسط القرن التاسع عشر أن يتولى زمام المهمة ليجعل “العالم كله يرى جمال بلاده” كما قال حينها، ومضى الرجل في تنفيذ مشروعه بإصرار غير عابئ بالظروف الطبيعية القاهرة ولا بالإحباطات التي زرعها زملاؤه وأصدقاؤه في طريقه ليثنوه عن فكرة بدت مستحيلة في ذلك الوقت. ولنا اليوم أن نشكر السيد “ريجينباخ” على إنجازه العظيم الذي أتاح لنا أن نصعد الجبل خلال 35 دقيقة بدلاً من ؟؟؟؟؟ يتطلبها السير إلى هناك، مع أن القطار المستخدم اليوم مختلف طبعاً عن النسخة التي أنشأها المهندس الشجاع، علاوة على أني رأيت كثيراً من السياح يختارون الصعود سيراً على الأقدام على سبيل التريّض والمرور على الأكواخ والمراعي وقطعان البقر التي تنتشر في المنطقة، لكن المدة التي اقتضاها القطار في الوصول كانت كافية لأتأمل هذه المناظر منصتاً إلى حديث “ماركوس” عن المزارعين مفتخراً بانتمائه إلى هذه الشريحة الاجتماعية التي لم تفسدها المدنية الصارخة، فالرجل يزهو بأن أبويه لا يزالان يحلبان البقرة ويصنعان القشدة والجبنة بأيديهما رغم يسر الحال، وهو يؤيد القوانين المحلية التي تحظر عبور السيارات من المنطقة حفاظاً على السلامة البيئية للإنسان والمكان. وغني عن القول أن المنظر الذي بدا من قمة “ريجي” يفوق الوصف، فالصورة ستكون أبلغ من أي عبارات إنشائية قد أسهب في تدبيجها هنا، لكن الموقف الذي يستحق التدوين هو ما حدث لي مع أحد المزارعين المحليين، فحين استشف “ماركوس” حماسي لاستطلاع أحوالهم قادني إلى شيخ طاعن في الحكمة حال بين تواصلنا المباشر ضعف ألمانيتي، بل انعدامها بالأحرى!، فتولى ماركوس الترجمة بيننا، وكان حديث الرجل درساً في التاريخ وحب الطبيعة جلست مصغياً إليه كتلميذ مطيع لا يقاطع أستاذه الذي يلقنه أصول احترام الطبيعة وتقديس أرض ورثها عن آبائه ويريد لها أن تبقى على حالها ليستكمل أبناؤه سقياها ورعايتها من بعده، وهو الموقف الذي ينبغي للسائح أن يسعى إليه حتى يفهم ثقافة البلاد التي يزروها بدلاً من العبور صامتاً من مشهد إلى آخر. ورغم أننا في وسط أبريل، إلا أن الجو البارد لم يحبس رواد التسلق عن ارتداء الملابس الملائمة واعتمار القبعة الواقية وحمل الأدوات اللازمة لرحلة مغامرة شيقة يتنافسون فيها على بلوغ القمة بمرحٍ وتحدٍّ واستمتاع أمام المنتجع الأبرز في المنطقة “ريجي كالتباد”. وانصرفت خلال العودة إلى “ويجيس” في تأمل القرى التي لا تعرف أين تنتهي إحداها لتبدأ جارتها، وأدهشتني قدرة الناس هنا على العيش في هذه الظروف الشتوية الصعبة، لولا أن “ماركوس” أخبرني أن هناك السياح أنفسهم يرتادون المنطقة في الشتاء للتزلج على الجليد الذي ينتشر بكثافة على منحدرات الجبل ليؤمن ظروفاً مثالية لهذه الرياضة الأثيرة لدى كثير من الناس. البحيرة.. للتنقل والفرجة ولأني قدمت من مدينة “لوسيرن” إلى “ويجيس” مستقلاً سيارة عامة، قررت أن أعود إليها عبر السفينة كما نصحني صديقي “ماركوس” الذي أشار إلى أن سكان القرية أنفسهم يفضلون استخدامها في التنقل، لأن نظام الملاحة الذي تديره شركة متخصصة تنظم الرحلات في بحيرة “لوسيرن” بين المدينة وقراها المحيطة، هو النظام الأفضل والأكثر تطوراً على مستوى أوروبا، وهو ما لمسته بنفسي بدء من المواعيد الدقيقة مروراً بالطاولات النظيفة والخدمة المثالية وقائمة الطعام الشهي وانتهاء بالطاقم المهذب الذي يعبر حقيقة عن الأخلاق السويسرية الرفيعة. تطلبت الرحلة نحو 45 دقيقة بين “ويجيس” ومدينة “لوسيرن” التي تحمل اسم البحيرة التي قطعتها منجذباً إلى منظر الجبال والقرى منعكساً على صفحة الماء الحاني على طيور البجع المنتشية بمراقبة جموع السياح وهم يقذفون إليها قطع الخبز والبسكويت! تراث معجون بالمدنية لا تبدو مدينة “لوسيرن” صاخبة كما هي حال المدن الأوروبية، بل ربما تكون عبارةٌ من قبيل “مدينة في ثوب قرية” أنسب ما يقال في وصفها، وهو التعبير الذي أيدتني فيه رفيقتي “روث”، السيدة الخمسينية التي اهتديت إليها بتزكية مشكورة من “ماركوس” أكد لي فيها عمق ثقافتها واطلاعها المفصل على تاريخ المدينة ومزاراتها الشهيرة. ترى “روث” أن نهر ؟؟؟؟ الذي يفصل الجزء القديم من المدينة عن جزئها الحديث، يعبر بوضوح عن هذه الثنائية الجميلة بين التراث والمدنية، والتي اكتسبتها “لوسيرن” عبر تاريخ يمتد حتى القرن الثاني عشر، تاريخ تلخصه اللوحات التشكيلية المعلقة داخل الجسر الخشبي المسقوف الذي يصل بين الضفتين، فكل لوحة تروي فصلاً من حكاية المدينة التي تفخر بهذا الجسر على أنه أقدم جسر خشبي في العالم. وهي أيضاً “مدينة المهرجانات” كما يسميها أهلها، فمن النادر جدا أن تزورها دون أن تصادف مهرجاناً ثقافياً أو موسيقياً أو شعبياً تنظمه المدينة، لا سيما أن السلطات المحلية رصدت مبلغاً ضخماً لبناء مجمع KKL ليستوعب هذه النشاطات التي يحبها السكان والسياح على حد سواء، فهو يستضيف كبار الموسيقيين والفنانين العالميين في مناسبات متفرقة. وفي جولة ممتعة، مشيت طائعاً منقاداً إلى أوامر “روث” التي طافت بي أرجاء المدينة القديمة وميادينها وأبنيتها، بينما تشير بإصبعها إلى كل بيت تستعرض قصته بدء من بنائه حتى يومنا هذا مروراً بجميع مالكيه! ومن ذلك بيت جميل مبني بطريقة معمارية جمعت بين الفن الإيطالي والأندلسي، بناه رجل غني قبل بضعة قرون لكنه أعدم لاتهامه بالهرطقة في فترة المحاكم الجائرة التي سادت أوروبا آنذاك، ثم تداول الناس أن روح هذا الرجل لا تزال تسكن البيت فأصابته لعنة عزف الجميع بعدها عن شرائه، وهو اليوم مملوك للسلطات المحلية. جملة من القصص كانت تتداعى من ذاكرة “روث”، لكن قصة “برلمان الأطفال” جديرة بالتأمل، فهو مجلس تشريعي منتخب من المدارس المحلية يشارك فيه أطفال من الجنسين تترواح أعمارهم بين الثامنة والخامسة عشرة، تخصص لهم السلطات المحلية ميزانية محددة يتناقشون بينهم في أمر إنفاقها بما يخدم مصلحة المدينة، والحكومة ملزمة بتنفيذ المشاريع التي يصوّت لها هؤلاء الأطفال، وأتخيل أن زيارة أطفالنا محفلاً كهذا ستغير من طريقة تفكيرهم وستهديهم إلى كثير من السلوكيات المتحضرة. زحمة دون ضجيج ورغم أننا أمضينا معظم النهار نتجول في كتب التاريخ وصفحات العمارة البديعة التي تكسو أبنية “لوسيرن”، إلا أن “روث” أرادت ألا يدركنا المغيب ونحن هنا، فقادتني نحو الجزء الحديث من المدينة لأشتري حصتي من الشوكولا السويسرية كأي سائح، وهناك أيضاً بهرتني هذه المدينة مجدداً بشوارعها النظيفة ومحالها الفاخرة وأخلاقيات سكانها الطيبين، ومع أنها لا تختلف عن بقية المدن السويسرية في هذه المزايا، إلا أني لم أشهد زحمة سير لا يصاحبها ضجيج مزعج إلا في هذا المكان!. وكما أخبرتني “روث”: “من العسير علينا أن نودع المدن الجميلة دون أن نستبقي في أنفسنا شيئاً منها”، وهو ما فعلته بي “لوسيرن” حين غادرتها باتجاه جنيف في رحلة بالقطار لم تتجاوز ؟؟؟؟؟؟ ساعة، مررنا خلالها على مناظر لا يكاد المرء يصدق أنها أمامه حقاً!. كيف توفر 90 في المائة من تكاليف التنقل؟ تبدو سويسرا للوهلة الأولى بلداً للمترفين يعجز أبناء الطبقة الوسطى عن زيارتها إلا في أحلامهم، لكن الواضح أن هذه البلاد، رغم ما يروج عن غلائها، تشرع أبوابها للجميع، ويمكن للكثيرين زيارتها في رحلة اقتصادية محدودة التكاليف، إذا التزم المرء ببعض النصائح التي يسديها خبراء السياحة، ومن ذلك الاستعداد المبكر للرحلة وتحري أوقات التخفيض في رحلات الطيران، وتجنب المواسم السياحية التي ترتفع فيها أسعار الغرف الفندقية، وهي إرشادات عامة يسمعها المسافر في كل رحلة إلى أي بلد، لكن ما يخص سويسرا أن شراء تذكرة “سويس باص” تشمل فترة الإقامة، يوفر أكثر من 90 في المائة من كلفة التنقل، وهي نسبة كبيرة كما هو واضح، فهذه التذكرة تخولك ركوب جميع وسائل النقل في البلاد، باستثناء السفن وبعض العربات الجبلية، ويمكن ابتياعها بسهولة عن طريق الإنترنت وبأسعار زهيدة تبدأ من 900 ريالاً تقريباً للكبار عن ثمانية أيام متتالية في الدرجة الثانية، ونصفها تقريباً للأطفال عن المدة نفسها وفي الدرجة نفسها، بينما لو تواكل السائح على الشراء المباشر من كل محطة لتكبد أكثر من 250 ريال عن رحلة واحدة بين جنيف ولوسيرن على سبيل المثال، ومن الضروري ألا يرتكب المسافر أي خطأ في هذا الشأن، لأن جابي القطار لا يتسامح مع أحد مطلقاً، وهناك غرامات باهظة على المخالفين، فاسأل عن كل شيء قبل أن تتورط بالركوب في رحلة لا تشملها تذكرتك، وتأكد أن التذكرة في حوزتك قبل أن تعتلي سطح القطار. وما لم يكن المرء راغباً في التسوق، كما جرت عادتنا!، فلن تكون الرحلة بالنسبة إليه كابوساً مزعجاً، فشراء البضائع المتوافرة في السوق المحلية لا يعد أمراً حكيماً لا سيما أن الأسواق السويسرية تدفع ضرائب باهظة يحمّلها البائع في المحصلة على المشتري، لكن شراء بعض الهدايا والتذكارات الجميلة لا يستنزف الكثير من المال، ولا أتوقع أن أصدقاء السائح وأقربائه سيغفرون له عودته دون ألواح الشوكولا السويسرية التي تتفاوت أسعارها بين سوق وآخر وبين علامة تجارية وأخرى، لذلك ينبغي أن يحتفظ المتسوق بجميع الفواتير حتى يستعيد قبل مغادرته المطار بعض الضرائب التي أنفقها، وقد تبلغ 7 في المائة من قيمة الفاتورة، وإن كانت لا تشمل كل البضائع.