إن كنا نتحدث عن الصحة النفسية فلابد لنا أن لا نغفل جانباً مهماً ومعياراً أساسياً لتقويم الأداء الشخصي لدى الأفراد , وأقصد بذلك معيار الإنجاز المهني والأكاديمي للفرد , فهذا المعيار كفيل بأن يشير إلى وجود خلل ما في الشخصية , أو حتى مجرد مشكلة تتراوح ما بين الخفيفة أو الثقيلة. ويعد العمل أحد صور النشاط الطبيعي للإنسان , فالفرد عندما يزاول مهنته مكتبية كانت أو ميدانية فهو يقوم باستغلال قدراته ومواهبه بشكل أو بآخر , وهذا في حد ذاته معزز خارجي يعينه على قضاء أهدافه الحيوية الأخرى ويشعره بالرضا والسعادة والاتزان. وهنالك علاقة قوية وواضحة مابين العمل والاتزان النفسي والانفعالي للفرد , فما يتركه العمل من آثار كالنجاح والتفوق أو الفشل والإحباط قد يظهر جليا على حياة الشخص اليومية مما يساعده على تحقيق الاتزان أو الاضطراب على حد سواء. فعندما يدخل عليك موظف ما عُرف ببشاشة الوجه ورحابة الصدر ودماثة الخُلق ؛ وتجده فجأة يفتعل لك المشكلات ويشتم هذا ويغلط على ذاك , فاعلم أن هناك ما يؤرق يومه ويقلق مرقده ويشتت ذهنه مما جعله يتغير عن طبيعته التي لازمته لسنوات. وفي المقابل إذا رأيت موظفا سارحا غارقا في التفكير وتاركاً ما وراءه من أعمال وأشغال , وارتسمت ملامح البؤس على وجهه , والأرق في عينيه , والتعب على جسده ؛ فأعلم أن هنالك أمراً ما طرأ على حياته ؛ قد يمس ذلك الأمر أهله أو منزله أو حتى عمله , ومن سطوته على تفكيره تعذر عليه فصله بشكل أو بآخر عن عمله. هي في الحقيقة نماذج كثيرة تصادفنا أثناء التنقل بين أبواب مكاتب الموظفين , فخلف تلك الأبواب مشاكل مجتمع وأسر وحياة , وخلف تلك الأبواب شخصيات مختلفة التركيب منها ما يستطيع التأقلم مع الحياة والتكيف معها ومنها ما هو أضعف من تقبل التغير في أبسط صوره. كما انه من أهم النواحي التي يجب الإشارة لها طريقة اختيار المهنة والثبات فيها , فالاختيار غير الموفق للمهنة له أثره الواضح على الصحة النفسية للفرد , فقد تكون المهنة لا تثير حماسه أو اهتمامه ؛ ولا تشبع ميوله ورغباته ؛ ولا تتفق مع قدراته واستعداداته ؛ فيؤدي ذلك إلى ضعف إنتاجه من جهة , وإلى شعوره بالضيق والاضطراب من جهة أخرى. أما سوء التكيف المهني قد يحدث إن كان هنالك مشكلات في العمل سببها بيئة العمل ذاتها أو البيئة الخارجية , والنهاية إن لم يتم تدارك الموقف ستكون عواقب الأمور وخيمة وقد تنتهي بالتحقيق أو الفصل أو الاستقالة. ويهتم الكثير من رواد التنمية البشرية في الشركات العالمية بوجود ما يسمونه بالخبير أو الأخصائي النفسي ضمن الطاقم العملي لديهم , ومهمته تتلخص في المحافظة على الروح النفسية للعامل في الشركة , وتقديم المساعدة له من خلال النصائح والإرشادات أو جلسات الاسترخاء إن تطلب الأمر , كما أن من مهامه عقد الدورات والنقاشات الفردية والجماعية متعددة المواضيع وذلك للخروج من طابع الروتين الممل في سبيل تحقيق نوع من التنفيس الانفعالي للعاملين بالشركة بمختلف رتبهم ووظائفهم مع العمل على تهيئة الجو المناسب لهم لتحقيق التكيف والاستقرار النفسي. ولا أخفيكم أنني أحمل بين طيات كلماتي اليوم رغبة مماثلة بأن يكون لدينا في جميع مؤسساتنا من يهتم بصحتنا النفسية , فإن ذلك لا يعود على المؤسسة بالفوائد الاقتصادية فحسب , وإنما يساهم في نشر روح الألفة والمحبة بين العاملين , كما يساهم في انتاج شخصيات عاملة تتسم بالإنتاج والطمأنينة والطموح.