هل هنالك أجمل من أن يرتبط اسمك بالفرح؟ ما أن ننطق اسم (توحة) حتى تتداعى في ذواكرنا كل حفلات الزفاف التي كانت هي نجمتها الساطعة، كل السهرات الجميلة والجلسات الطربية و»القيلات» الماتعة وعصاري البساتين الباسقة التي كانت تشدو فيها بصوتها الرنان الساحر. نصف قرن من الزمان قضته (توحة) في إشاعة السرور ونشر البهجة وإسعاد القلوب. هل هناك أروع من أن يسترجع اسمك كل المناسبات السعيدة في حياة الناس، كل الليالي الملاح؟ وحين نربط بين توحة وإحياء الحفلات، فلا يجب أن يتبادر إلى أذهاننا أنها كانت مغنية تملأ الليلة صخبًا بغناءٍ باهت يُحرّك الأقدام والخواصر. كانت توحة وما زالت فنانة يهمها أن تقدم طربًا أصيلًا، لذلك فهي قد خاضت خضم التراث الصعب، وقدمته في أبهى صوره للحاضرات المتذوقات اللواتي كن يلتزمن أماكنهن في زمن كان الرقص فيه عيبًا. في زمن السماع والتمعُّن كانت النساء ينصتن مُنطربات إلى تلك الشابة التي احتضنت عودها وجلست في وسط فرقتها، تنقل لهن بتمكن وإحساس عاليين أنواع الطرب الحجازي من الدّانة والموّال والمجرور إلى المجسْ والحِدْري والفُرعي. لكن مواهب (توحة) المتعددة لم تسمح لها بالتوقف عند المحافظة على الفلكلور الثمين، بل إنها تواصلت مع معاصريها، وتعاونت مع فوزي محسون وثريا قابل وطارق عبدالحكيم وغيرهم لتنتج أغنيات حجازية خالدة، ثم بدأت في كتابة أغانيها الخاصة، ولحّنتها بنفسها، وعزفتها على عودها، وغنتها بصوتها العذب، حتى أصبح لديها رصيد هائل من الأعمال المميزة. فنانة شاملة وصاحبة مشروع طربي متكامل تشق طريقها بجهدٍ وصعوبة، رغم أن قبولها عند الناس كان فوريًا، فقد كانت جماهيرها تتضاعف وقيمتها تتزايد في قلوب الناس الذين تفاعلوا معها وأحبوها ودلّعوها ب(توحة) بدلًا عن اسمها الحقيقي (فتحية)، واحترموا عملها كفنانة محترفة. (توحة) امرأة سعودية عاملة، حوّلت موهبتها وقدراتها إلى مصدر رزق تفخر به، وخطّت خارطة طريق للغناء النسائي الاحترافي. تسيّدت (توحة) الساحة الغنائية النسائية السعودية، سبقها من سبق، ولحق بها من لحق، وجاء بعدها من جاء، فقد ظلت صامدة. ربما قلّ ظهورها، وربما ازدحمت الليالي بأصواتٍ كثيرة متشابهة تُردِّد كلامًا ما عاد مفهومًا، لكن معظم الأسر السعودية في البيوت الحجازية ما زالت تحنُّ إلى الغناء الأصيل، وتشتاق إلى مطربتها الأولى والوحيدة، فتلتفّ حولها كل حين وتنصت إليها وهي تصدح بكلامٍ رقيق وأنغام راقية. بعد ما يقارب الخمسين عامًا من العطاء تم تكريم (توحة) من قبل الجمعية السعودية للمحافظة على التراث والفنون في جمادى الأولى 1437، في لفتة نبيلة من رئيسة مجلس إدارتها سمو الأميرة عادلة بنت عبدالله بن عبدالعزيز التي قالت: «إن تكريم الفنانة (توحة) جاء تتويجًا لمسيرتها الفنية الطويلة، وإسهامها في تعزيز الفلكلور التراثي السعودي». وقفت توحة لأول مرة على المسرح، تواجه جمهورًا من النساء لم يحضر للأنس والانبساط، بل حضر ليُعبِّرعن تقديره لها، وعن اعترافه بمكانتها الفنية الرفيعة. في داخلها هي ربما لم تكن تُصدِّق تمامًا ما يحدث لها أخيرًا، لم تكن تُصدِّق أنها عاشت لتراه ولتستمتع بلحظاته، ولتأخذ نصيبها من الفرح الذي منحته للناس كل هذه السنين. في ليلة تكريمها، وقفت توحة على المسرح لتحيي ليلتها هي، لم تكن هناك عروس أخرى تشاركها المساحة ولا الأضواء ولا الاهتمام، كانت هي وحدها البؤرة والأصل والأساس. كانت سعادتها تساوي سعادة كل العرائس اللواتي أحيت زفافهن: كان احتفالهن بليلة تبدأ عمرًا قادمًا، أما احتفالها فكان تتويجًا لكفاح العمر كله. تستحقين يا (أم حسن) كل هذا الوهج والثناء والكثير من الحب.