بات مصطلح الفدرالية من أكثر المصطلحات السياسية التي أصبح الناس يتداولونها في مناحي حوارهم حول مختلف القضايا السياسية بالمنطقة العربية، وصار كثير منهم ودون سابق موعد، عارف بشؤون السياسة والاقتصاد، ولا تعجب حين تراه يُنظِّر في القانون والفقه الدستوري. ولعمري فإن ذلك وإن كان إيجابيًا على الصعيد العام من حيث معرفة الشارع بخلفيات عدد من الآليات وخلفيات كثير من القرارات السياسية، إلا أنه يُصبح شيئًا مُزعجًا حين يتمادى الأمر ليتحوَّل كل إنسان إلى مُنظِّر لمختلف القضايا السياسية ومُتفاعل معها بشكلٍ متطرف، وهو ما سبّب كثيرًا من الصدامات في الشارع العربي مؤخرًا، بين قائل بالفكرة ومناضل من أجل تحقيقها، وآخر متشبث بنقيضها ومناضل من أجل إثبات وجودها، والأدهى والأمرّ حين نعرف أن الطرفين ليس لهما من الأمر من شيء، بل لا يعرفون أي ملمح تفصيلي عن أصل فكرتهم التي يناضلون من أجلها، وإنما شكّلوا رأيًا، وتبنّوا موقفًا، بناء على ما فهموه من تلك القناة الفضائية أو الأخرى. هكذا بات الإعلام السياسي المؤدلج مسيطرًا على وعي الشارع العربي، ومُشكِّلًا لرؤيته وأفكاره وصولًا إلى هويته، وكان لأجل ذلك أن استطاع في مختلف المراحل المتأخرة من تسيير الشارع وفق ما يريد، وتوجيه بوصلته صوب المشروع الذي يريد، ولا بأس في ذلك إن كانت رؤيته سليمة، ومنهجه صادقًا، لكن ما حدث ويحدث عكس ذلك، إذ تخدم كثير من البرامج والأخبار السياسية توجُّهات مُعينة، وأهدافًا ورؤى ليست من صنع وعينا العربي على أقل تقدير. حين أسّس البارون منتسكيو لمفهوم الفدرالية، وشرَّع لآلية عملها، كان مُنطلقه قانونيًا حقوقيًا، وليس سياسيًا سُلطويًا، ذلك أنه في كتابه القيِّم «روح القوانين» قد استهدف إصلاح نظام الحكم في الممالك والإمارات الأوربية، المتنوعة الثقافات والأعراق أيضًا، التي كانت تُحكم بشكلٍ مركزي وفيه قدر كبير من التعسف، مما أشعل عديدًا من الحروب والصراعات الداخلية بينهم، فكان أن طرح البارون منتسكيو في منظومته التشريعية فكرة الفدرالية، التي تسمح بأن تُدير كل مقاطعة شؤونها الداخلية على النطاق الإداري والديني والمجتمعي بالشكل الذي يتوافق مع رؤيتها، دون أن يمتد ذلك إلى الشأن السياسي للدولة بوجهٍ عام. وهو ما آمن به الآباء المؤسسون للولايات المتحدةالأمريكية، الذين بنوا نظامهم التشريعي وفقًا لرؤيته، فكان أن اتحدت الولايات في الإطار السياسي وغيرها من القضايا المركزية المتفق عليها، وامتلكت كل ولاية حقها في صياغة مشروعها القانوني ونظامها الإداري وفق احتياجاتها ورغبات مواطنيها، أولئك الذين لم ينشغلوا بمتابعة ما يُلاك إعلاميًا في الشأن السياسي، فهناك من أوكل إليهم بذلك من المختصين العارفين، ممن يصعب التأثير عليهم إعلاميًا، ويستحيل توجيه رأيهم عبر برنامج أو تحليل ونقاش عابر. [email protected]