img src="http://www.al-madina.com/files/imagecache/node_photo/00000_1.gif" alt="“زبّال" يحلم بالثراء من فوّهة حاوية!!" title="“زبّال" يحلم بالثراء من فوّهة حاوية!!" width="400" height="233" / أدركتُ منذ الوهلة الأولى التي سأبدأ بها جولتي بحثًا في أسبار أهل المهن، أنني سأواجه عاصفة من النقد، وكنتُ في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم قد خضتُ هذه التجربة في الكويت، حين تقمّصتُ العديدَ من الشخصيات المهنية. بيدَ أن الفكرة الآن هي التعريف بمعاناة أولئك البشر، الذين يعملون تحت وطأة الحرارة، وفي أوقات الراحة وهم يجوبون الشوارع من أجل لقمة العيش، التي تأتي بالجهد والعرق.. وقد لا يعرف الكثير منّا كيف تعيش تلك الفئة من الناس، وكيف تصرف تلكم الدريهمات القليلة؟ والتي بالكاد تسد رمق جوع أطفالها البعيدين. لكن في تجربتنا سنخوض غمار المعرفة مع الجميع دون استثناء بهدف المشاركة في حياتهم وآليتُ على نفسي أن أسرد كل ذلك في سلسلة حلقات.. نتعايش بها معهم، ونستمع إلى آهاتهم، ونشاركهم لحظات الفرح -إن وُجدت- استوقفتني في البداية فكرة الالتقاء بعامل نظافة، أو ما نطلق عليه «زبّال». وكدتُ أن أفشل لأكثر من مرة، ولكنّ الفرصة لاحت لي حين التقيتُ بحسين سيف الحق، وقد أتاح لي الولوج إلى عالمه، ومشاركته يومه، وهمومه، وساعات انتظاره من أجل العودة للوطن؛ ليشاهد فلذات كبده وقد كبروا بعيدًا عن ناظريه.. أدرك حسين منذ أن وقّع عقد عمله «كزبال» أن لا خيار أمامه سوى القبول بالمهنة، وهو يمنّي النفسَ بأن مهنته هذه التي قبل بها ستساعده على تعليم أبنائه، وإكمال بناء منزله المتواضع، وهو لا يريد أن يرى أحدًا من أسرته يتعذّب من أجل لقمة العيش.. عملٌ متواصلٌ يبدأ حسين عمله من الساعة الرابعة فجرًا، وهو يحمل مكنسته، ويدفع بعربة النفايات أمامه بعد أن توصله سيارة الشركة إلى الموقع المراد تنظيفه. ويقول حسين أنا مقتنع تمامًا أن الكثير يزدري عملي، ولكن الحقيقة أن عملي هو ركيزة أساسية في حياة كل إنسان؛ ولذا أدخلت هذه الفكرة في رأسي، ولم أعد آبه بنظرات السخرية. * حسنًا.. كيف تتعامل يوميًّا في عملك مع الآخرين يا حسين؟ - أنا أواجه الكثير من طبقات المجتمع، ولعلمك أنا أحمل مؤهلاً متوسطًا في التعليم. ويستطرد حسين سيف الحق سرد حياته اليومية بالقول: هناك فئة من المجتمع تحترمنا كثيرًا، وتتعامل معنا بإنسانية راقية، ولكن على الطرف الآخر هناك مَن يحاولون استفزازنا. * استفزازكم !! كيف؟ - أقول لك.. أحيانًا كثيرة أكون قد أنجزت الكثير من مهام عملي بالنظافة، وفجأة يظهر بعض الشباب، ويتعمّدون إلقاء القمامة، بل وينثرونها على قارعة الطريق، وأقف حائرًا لا أستطيع حتى معاتبتهم، فأضطر أن أعود من جديد، وهذه تحدث أحيانًا، ولكن ليس دائمًا.. أن المشكلة التي تواجهني يوميًّا هي في حجم القمامة اليومية التي أقوم على جمعها، فأنا أستغرب هذا الحجم اليومي من الزبالة.. * يلاحظ يا حسين أن البعض منكم ينبش القمامة.. لماذا؟ - نعم ننبشها؛ لأن فيها الكثير من الأشياء الصالحة.. تصوّر أنني حصلتُ على جوال صالح للاستعمال في إحدى المرّات مرميًّا في القمامة.. إن الأغلبية منكم يمتعضون من نبشنا، ولكنهم لا ينكرون على أنفسهم حين يلقون بأشياء جيدة أو صالحة للاستعمال. * ولكن أليس في ذلك ضرر عليك، وقد تتعرض للأمراض مثلا؟ - انظر.. أنا أعمل في قلب المرض، إن أردت القول؛ لأن القمامة تحتوي على أمراض وجراثيم، وأنا أعلم ذلك. ولكن حين تلمع أمام ناظريك قطعة ذهب مثلاً وسط الطين، فأنت ستقوم حتمًا بتنظيفها، وأخذها.. وهذا ما يحدث معنا! فكثيرًا ما نجد أشياء ثمينة، أو صالحة للاستعمال مثل مكواة ملابس، أو خلاط عصير يحتاج إلى تصليح بسيط، فأقوم بعمل اللازم، وأحتفظ به لنفسي لآخذه معي بعد انتهاء عقدي. مواقف وطرائف * أنت تعمل في الشارع يوميًّا، كيف ترى المجتمع برؤيتك؟ - السعوديون طيبون، وفيهم غرسة جميلة، فهم أهل أمانة وطيبة، وهذا من خلال تجربة، فقد حدث ذات يوم قادتني قدماي فيه إلى العمل لغسيل السيارات، وهي تجربة يخوضها الجميع من أجل تحسين الدخل، وبعد أن انتهيتُ منها فقدت محفظتي، وفيها حوالى مئة وعشرين ريالاً عدا عن الإقامة، ولم أنتبه لذلك إلاّ في السكن، وأخذت أنوّح على خسارتي، خاصة وأن السيارة التي غسلتها لا أعرف صاحبها، ولكنني فوجئت بالمساء أحدهم جاء إلى مقر سكننا يبحث عنّي، وخشيتُ أن تكون هناك مصيبة جديدة تلاحقني! ولكنّه في الحقيقة لم يكن سوى صاحب السيارة الذي وجد محفظتي، وأعادها إليّ، ولم أتمالك نفسي من الفرح فعانقته بشدّه وكان في غاية اللطف والأمانة.. ولكن هناك أيضًا ممّن يعبثون بالأمور في الشارع فكثيرًا كنتُ أشاهد شبابًا يتعمدون تكسير الإضاءات أو التفحيط داخل الحديقة العامة، وتخريب الأرصفة، وهم بذلك يخربون ممتلكاتهم بأيديهم. * لماذا لا تمنعهم.. أو على الأقل تبلّغ عنهم؟ - لا..لا.. لا أستطيع.. فهم سريعو الغضب، وربما قاموا بضربي، وتكسير عظامي.. يضحك، ويردد قائلاً: لا أريد أن أعود لزوجتي فاقدًا شيئًا من أعضائي!! * حسنًا.. ولكنّك مؤتمن على مكان تعمل فيه؟ - أنتم مؤتمنون أكثر مني على أشيائكم، فهل أحافظ عليها، وأنتم تعبثون بها؟ أنتم أحق بذلك، ويُستحسن أن يتوقف الشباب عن التهوّر الذي هم فيه. * حدّثنا -ياحسين- عن حياتك في بنجلاديش.. كيف هي؟ وكيف تتواصل مع أهلك؟ - الحمدلله أنا لديّ أربعة أطفال، وزوجة، بالإضافة إلى أمي وأبي، وشقيقة صغرى. وجميعنا نعيش في بيت واحد، ولكن بدأت الآن أبني منزلي بجوار بيت والدي. * هل تريد أن تقول لي إنك تعيش وأسرتك على دخل لا يتجاوز خمسمائة ريال شهريًّا؟ - أبي رجل طاعن في السن، وكذلك أمي، وقد اضطررت للعمل كزبّال من أجل أن أعينهم، وأقاسي الغربة والبُعد من أجل أن أجعل أسرتي تعيش بكرامة، وأتطلّع إلى بناء أسرتي بشكل جيد. * وكيف تبني بيتًا؟ - هو ليس بيتًا بمفهومكم كسعوديين، وإنما ثلاث غرف متلاصقة لبيت والدي، وشهريًّا أبعث بمرتبي كاملاً إلى والدي، وهو الذي يصرف منه على أمي، وزوجتي، وأولادي، وشقيقتي، ويتبقى جزء منه لبناء الغرف، وفي كل شهر ننجز شيئًا! * حسنًا.. إذا كنت تبعث بكل مرتبك الخمسمائة ريال، فكيف تعيش أنت؟ - انظر.. عملي يبدأ عند الساعة الرابعة فجرًا، وينتهي الثانية عشر ظهرًا، أعود وأتغدى، ثم آخذ راحة لمدة ساعتين، أذهب بعدها للعمل الإضافي، وأحصل فيه على مئتي ريال، هي التي أصرف منها على نفسي، وأحيانًا أعمل في غسيل السيارات، وهو أمر مرهق ومزعج، خاصة مع البلدية التي تطاردني من مكان لآخر، ولكن في كل مرة أنجو.. يضحك. وكثيرًا ما أحصل على مساعدات يومية مالية وعينية تساعدني في دخلي! حرمة قرقر كثير!! * وكيف تتواصل مع أهلك؟ - آه.. أنا هنا سأبوح لك ببعض الحقائق، فزوجتي دائمًا في صراع مع شقيقتي، وكذلك أمي، وأحيانًا أخسر أكثر من عشرين ريالاً في مكالمة معهم لتهدئتهم. * ماذا يحدث؟ ألا ينظرون إلى معاناتك وغربتك؟ - شقيقتي ترى أنها وأمي أحق بالمال في كل شيء، وزوجتي تود أن تستفرد بجزء منه لنفسها، وأبقى أنا عالقًا بينهم! وبالأمس فقط حدث شجار بينهم، بعد أن وصلتهم الحوالة، واتّصلت لأطمئن عليهم، فكانت زوجتي تكيل لي العتاب، واللوم، وتقشف الحياة، وتسلط أختي. وعلى الطرف الآخر كانت شقيقتي تشكو لي من زوجتي، وعدم اهتمامها بأبي وأمي.. والأمر معهما لا يُطاق، ولكني أحاول دومًا التوفيق بينهما، واضطر للكذب عليهما، ويسترسل بالضحك.. * تضحك عليهما؟ إذًا كيف تعالج أمورك الأسرية وأنت بعيد عنهم؟ - النساء لدينا يحببن الهدايا بشكل كبير جدًّا، وأنا دومًا أحتال عليهن بذلك، فما أن تبدأ زوجتي، أو شقيقتي بالثرثرة حتى أقول للواحدة منهن: لقد عدت للتو من السوق، وجلبت لك هدايا، ولكن لا تقولي لزوجتي، وهكذا أفعل مع زوجتي، وأطلب منها أن لا تقول لشقيقتي، شريطة أن تهدأ وتوقف المشاجرات اليومية، وبذلك أكسب الجولة معهن ليهدأ البيت. العودة للوطن * كم لك تعمل في هذه المهنة؟ وهل قررت العودة إلى أهلك؟ - أنا هنا منذ نحو عامين، و-إن شاء الله- سأعود العام المقبل، وأنتظر بفارغ الصبر عودتي لرؤية أطفالي، فقد اشتقت إليهم كثيرًا، ولم أرهم منذ نحو عامين. * هل تكفي الخمسمائة ريال كل أسرتك؟ أريدك أن تقنعني بذلك! - الخمسمائة ريال تساوي ما يقارب العشرة آلاف تاكا بنجلاديشية، وهي دخل شبه جيد لمستوى المعيشة لدينا، وقد أدخلت اثنين من أبنائي بالمدارس، وبدأت حياتي تتحسن بشكل أفضل لولا البيت الذي أعمل على إنشائه، فقد قصم ظهري، وهو يستحوذ على نصف ما أبعث به لأسرتي، ولكن لم يتبقَ إلاّ القليل، وسيكون جاهزًا -إن شاء الله- مع بداية العام المقبل! احلام وآمال * بماذا تحلم يا حسين؟ - أحلم بأن أحقق التعليم الجيد لأبنائي الأربعة، ولعلمك أنا تعليمي لا بأس به، ولولا الحاجة لأكملت تعليمي، ولكن لا أريد أن يحدث ذلك مع أبنائي، أريدهم أن يعيشوا حياة كريمة، وأحلم أن أعود إلى دياري ومعي ما يمكنني من فتح متجر بسيط أجتهد على تقويته وتكبيره! فهناك الكثير من أقراني عملوا في السعودية، وعادوا إلى بلادهم وهم يملكون مداخيل جيدة، ساعدتهم على الحياة الكريمة. * بصراحة -ياحسين- لو عرضوا عليك البقاء هنا، والزواج، هل تقبل؟ - يضحك كثيرًا، ثم يرد قائلاً في إحدى المرّات، وبعد شجار زوجتي وشقيقتي قلت لزوجتي إنني سأتزوج من هنا. فقد طلبتني إحداهن، وربما أعيش معها، وهي غنية وتملك المال، وقد جُن جنونها، ولو بيدها لقتلتني.. ليس لدينا التعدد، وهو أمر في غاية الصعوبة، ولم انتهِ من مزحتي تلك إلاّ بعد عدة أشهر، فقد رفضت أن ترد على اتّصالاتي لفترة طويلة، ولا أريد سوى أن أعود إلى حياتي وأسرتي وأولادي، ولكن أحلم بوظيفة أفضل من هذه التي أعمل بها، فقد سئمت منها وهي لا تمثل رغباتي، ولكن لا مفر لي منها! لحوم في الاعياد * شاهدت عددًا من أقرانك يطبخون، هل تبيعون على بعضكم الطعام؟ - لا.. لا نبيع الطعام، وإنما نتقاسم المهام، ففي كل يوم يكون الدور على أحدنا لشراء حاجيات الطعام، والطبخ، وعادة ما نأكل الأرز بكثرة، مع البطاطا، والفلفل، والطماطم. أمّا اللحوم فلا تتوفر دومًا، ولكننا نتلقى جزءًا منها في المناسبات والأعياد، وأحيانًا أيام الجمع من عامة الناس، وندفع فيما بيننا ما يعادل خمسين ريالاً شهريًّا لكل مجموعة تتكون من ثمانية أشخاص، وأحيانًا كثيرة لا تكفي، ونضطر أن نأكل الأرز فقط! ونصبر على ذلك أسبوعًا.. * حسين.. ماذا تنوي فعله بعد نهاية عملك اليوم؟ - لديّ عمل إضافي مع شركة النظافة، أذهب بعدها بالمساء لغسيل بعض السيارات، وأحيانًا لا أحظى بذلك، ولكن دائمًا أجرّب حظي، وكثيرًا ما أعمل في تنظيف فناء المنازل، وأحصل على مبلغ لا بأس به يساعدني في استيفاء حاجيات أسرتي. لا عيب في عملي * أريد أن أسألك بصراحة.. هل يعرف أولادك طبيعة عملك؟ - يضحك، ويرد بالقول: لا.. هم يعتقدون أنني أعمل في شركة كعامل فقط، ولكن لا يعرفون أن وظيفتي عامل نظافة، وأنا لا أستعيب من عملي طالما أنه يدر لي دخلاً يساعد أسرتي على حياة جيدة، فالمهم عندي الآن أسرتي.. * هل تواجه مشكلات مع الشركة التي تعمل معها؟ - مع الشركة السابقة كنتُ أعاني بشدة من تأخر الرواتب، وكان يسبب لي معاناة شديدة مع أسرتي، فكان التأخير يستمر لشهرين وثلاثة أشهر. * ماذا كنت تعمل خلالها؟ - كنت أضطر للبيع والشراء، كنا مجموعات نبيع النحاس، والحديد، والعلب الفارغة؛ لأن الشركة لم تدفع لنا، وقد عانيتُ كثيرًا من هضم حقوقي معهم، ولن أسامحهم.. أمّا الآن فالشركة الجديدة التي تولّت النظافة تتعامل معنا بمصداقية، وهناك دخل إضافي منحنا الكثير من المزايا بعدم العمل المرهق في الشوارع بحثًا عن النحاس والحديد. * أعتذر منك ياحسين- فقد أرهقتك بكثرة أسألتي؟ - ما في مشكلة.. شكرًا.. السلام عليكم..