منذ تباشير الصباح الأولى يجمع أحمد «15 عاماً» إخوته الثلاثة، ويذهبوا حيث «أكوام القمامة» يتوغلون فيها لساعاتٍ طويلة لعلهم يلتقطوا شيئاً من هنا أوهناك، يصلح للبيع أو للاستخدام وحتى للأكل.. وإلى جوارهم يصطف عشرات الأطفال والشبان وحتى النساء مشاركين إياهم رحلة النبش. هذا المشهد ليس ضمن مشاهد تراجيدية لمسلسل تلفزيوني تعرضه إحدى الشاشات بل سيناريو يتكرر منذ سنوات، وبالتحديد عقب فرض الحصار الإسرائيلي على أرض غزة ، وبرغم قسوته ومراراته، إلا أنه بات اعتيادياً مشاهدة عشرات الأطفال يتحلقون حول «مكبات النفاية» وكأنهم سطوا على كنزٍ ثمين. وعلى أعلى قمة جبل من «النفايات» وقف الطفل «خالد 13 عاماً» يغوص بين القاذورات تارة ويبحث بين الأكياس تارةٍ أخرى. وهو يرتب من هندامه الذي لم تترك الأوساخ مكاناً فيه إلا ولوثته قال بمضضٍ: « نعم أعمل في النبش بين القمامة والنفايات.. ومن تلك القاذورات ألتقط لقمة العيش لكي أطعم أسرتي وأتفق عليهم». وفي السنوات الأخيرة الماضية طفت على السطح ظاهرة «النباشين» وهم عبارة عن عشرات «الأطفال والنساء والرجال» يقومون بلملمة كل ما يصلح للأكل أو الاستخدام كالمواد البلاستيكية والنحاس والألمونيوم، ويجمعون بعض الأشياء التي تخلص منها أصحابها مثل الأحذية والملابس. والحزن يسكن صوته تابع خالد: « منذ عامان وأنا أعيش في هذا المكان فأبي طريح الفراش ولا يقدر على العمل.. وأمي مريضة بالقلب وترعى إخوتي الصغار وليس لنا معيل.. فهل أتركهم يموتون من الجوع أم أبحث عن شيء يسد رمقنا من أي مكان؟؟». وعن رحلته الصباحية إلى المكان قال: « أستيقظ مع شقشقة العصافير وأتناول بعض اللقيمات ثم أذهب إلى حيث مكبات النفايات.. وأجمع كل ما أجده صالح للاستخدام والبيع وحتى للأكل». وبين أنه ما يقوم بجمعه من الحديد والألمونيوم والبلاستيك يقوم ببيعه لتجار الخردة في غزة، ويعملون على تدويرها وإعادة تصنيعها، في نهاية يومه الشاق يكون قد جمع ما يقارب 40 شيكل « 15 دولار». والتقط طرف الحديث زميله في النبش «راجي 17 عاماً» قائلاً: « لا حل أمامنا سوى اللجوء إلى النفايات لكي نعيش ونطمع عائلاتنا.. لا نريد أن نتسول من هنا وهناك.. كل ما نتمناه أن نعيش كباقي البشر ونشعر بإنسانيتنا!!!». واستدرك بأسى: « نحن نشارك القطط والكلاب في نبش القمامة وبتنا لا نفرق بيننا وبينهم.. فكلٍ منهم يجري على إطعام أسرته.. ليس بيدنا شيء سوى قمامة الناس.. أما المستقبل فلا ننظر إليه». ولم يقتصر هذا العمل على الأطفال والشباب بل لحق بهم النساء والرجال ليلتقطوا الطعام لصغارهم ويقوا أنفسهم شر العوز والحاجة، فالحاج «أبو عبد الله» 50 عاماً لم يجد أمامه مفراً من الالتحاق بركب «النباشين» ليسكت أفواه صغاره السبعة. وعن سبب التحاقه بهذا العمل قال أبو عبد الله : فقدت عملي داخل إسرائيل منذ أكثر من عشر سنوات.. وكنت ألتقط رزقي من هنا وهناك ونعيش على المعونات الإنسانية من وكالة الغوث ولكن كل ذلك لم يكفي مصرفاتنا الضرورية ولا أستطيع إطعام صغاري وإلحاقهم بالمدارس». وأضاف بأسى :»أرغب في توفير احتياجات أسرتي من مأكل وملبس وكل أشيائهم الصغيرة التي يحلمون فيها.. دون أن أمد يدي لهذا وذاك ودون أن أشعر بإشفاق الناس عليّ وعلى أطفالي.. فالعمل في نبش النفايات أفضل من الجلوس على قارعة الفقر». وعن المخاطر التي من الممكن أن تلحق بهم قال: « السنة الماضية دُهس طفل تحت عجلات الشاحنة، فهو كان مغمور بالنفايات ينبش بها ولم تشاهده الجرافة فدهسته ولقي حتفه.. وقبل عدة شهور كاد طفلُ أخر أن يلقى حتفه لولا عناية الله وزملائه الذين شاهدوه وأوقفوا سائق الشاحنة قبل أن يدهسه». وبدوره، أكد مسئول ملف مكبات النفايات في غزة ماجد سكر أن ظاهرة النباشين هي قديمة ولكن ازدادت حدتها في السنوات الأخيرة الماضية.. فهؤلاء يعبثون بالنفايات لجمع ما يمكن بيعه والاستفادة منه كالحديد والألمنيوم والبلاستيك والأحذية المتهرئة بنسبة 50% حيث يقوموا بإصلاحها وبيعها وقد يعثر الأطفال أحيانا على ملابس جيدة فيقوموا بغسلها والاحتفاظ بها لأنفسهم». وبين أن الوضع الاقتصادي السيئ يعد من أبرز الأسباب التي تدفع الأطفال لترك مدارسهم والعبث بالنفايات ونبشها، « يأتي الأطفال إلى هنا للعمل بعد أن يعجز آباؤهم عن إيجاد عمل أو يصبحون عاجزين عن إعالة أسرتهم». وحول الآثار الصحية على العاملين في جمع النفايات، قال سكر: «إن جمع النفايات و فرزها في غزة يعتمد بالدرجة الأولى على الاحتكاك المباشر بهذه النفايات، التي قد تسبب مجموعة من المخاطر منها الإصابات والحوادث و الجروح». وعن نوعية الأمراض التي يمكن أن يصابوا بها قال: « هي أمراض كثيرة أبرزها التهاب الكبد الناتج عن الوخز بالإبر، والإصابة بأمراض الجهاز التنفسي وأمراض العيون والجلد نتيجة انتشار الجراثيم في المنطقة». وبعيدا عن الكوارث الصحية والاجتماعية يتمنى سكان غزة أن يستيقظوا وقد ودعوا سنوات الحصار المرة التي أجبرتهم على هذه الظاهرة بكل ما تحمله من معاني قاسية.