اكتساب الملَكة، وتوسيع المدارك هما المقصود الأول من تحصيل المعرفة، وعملية التثقيف والقراءة، والبشر في بدايات تكوينهم العلمي والمعرفي يبتدؤون عادة بالأقل حجمًا والأسهل إدراكًا؛ ليتماسك البناء ويتحقق التراكم المعرفي شيئًا فشيئًا حتى يصل المرء لمراده، وعدم الالتزام بهذه المنهجية يضر بالمتعلم فكريًّا وثقافيًّا حاضرا ومستقبلا، ومن هنا كان البدء بصغار العلم قبل كباره موجبًا للمدح والثناء، وهذا مما يؤكد أهمية هذه المرحلة الضرورية والعناية بها للتفقه في بعض العلوم الدينية والدنيوية. وعليه فإن الهدف أصالة من الانخراط في التعليم كله: هو توسيع المدارك، ونطاق التفكير للصعود إلى فضاءات المعرفة الغائبة، فالتعليم بكل أشكاله يُنتظر منه تأسيس الفكر وفتح الآفاق للعقل، وهذا البناء والتكوين متى كان هو المقصد؛ أمكن تجاوز وطرح كل ما يؤدي لإعاقته، فلا قيمة لأي وسيلة (المنهج أو الشيخ) إذا كانت مقصورة عن تحقيق الغاية منها. وكثيرا ما يصعب تقبل النقد للوسيلة وترشيدها حينما يرى البعض أنها المسلك الوحيد لتحقيق الهدف المعيّن، وقد يسوء الفهم أحيانا عند إلقاء اللوم على تلك الوسيلة بشدة، فيقال: تريدون إلغاءها وتشويهها! ولا يفرق أولئك بين الخطاب في تحسين الوسيلة مع بقائها، والخطاب من أجل الإلغاء، فالإلغاء غير وارد أساسا حتى عند أشد الناقمين على الوضع التعليمي السائد، وإذا كان نقد الوسيلة محظورا عند فئات من الناس، فهذا يعني إشكالا ما في ترتيب الحقائق وموقعها من الخارطة المعرفية! إن من ضروريّات النجاح في العملية التعليمية تعهدها وفحصها بالمراجعة، والتدقيق في مخرجاتها ومدى تحقيقها لأهدافها، وهذا يتطلب باستمرار ضرورة النظر في أمرين يُشكِّلان الأساس في البنية التعليمية الشرعية، وهما: 1- المعلّم (الشيخ): فإذا اتفقنا على الغاية والهدف (كما سبق) استطعنا تفهّم النقد لهذه الوسيلة أو تلك؛ فالشيخ هو الركن الأهم من أركان التعليم الشرعي، فلو ساء التعليم وأعلن وفاته، فهذا يعني وفاة الشيخ من قبل بجسمه وروحه، أو بجمود عقله وفكره؛ فالشيخ يُوجّه، ويَبني، ويُحلل، ويَجبر النقص المحتمل حصوله في الوسائل الأخرى كالمنهج المقرر، أو الضعف في دور الوالدين، فمن تضايق من نقد المعلّم بكل طبقاته شيخا أم أستاذا عليه مراجعة المقصد من التعليم ككل. 2- المنهج (المتن): يُعدّ المنهج من أهم الوسائل المساعدة للشيخ والتلميذ في الوصول للهدف، فهو يضبط مسار الشيخ والمعلّم، ويوسع مدارك التلميذ بالتدريج، وإذا قلنا: المتن، أو الشيخ والمعلّم هما مجرد وسيلة لغاية أكبر، فتمسّك بهذا المحكم واضبط معناه؛ حينها تتفهّم ولو بقدر جزئي أي نقد يُسلّط عليهما ويشكك في كفاءة نهوضهما بالتعليم والبحث وبناء العقلية الفاعلة. وعندما تَحرَّجنا كثيرا من توجيه النقد لهذين الركنين (الشيخ - المنهج) وقمنا بتضييقه ومحاصرته، قفز الناس عليهما، وظهر في بعض النماذج ما يمكن تسميته بالتعليم «الشخصي» اعتمادا على الجهد الفردي مع الاستعانة بالشروح المبسوطة والمسجَلة؛ وذلك بسبب الضعف الظاهر من بعض المعلمين والأشياخ علميًّا وفكريًّا، فالشيخ هنا وسيلة لا أكثر، ومتى كان عاجزا عن أداء دوره تُرك، واستُعيض بغيره عنه، ولا شك أن تكثير الوسائل وإمكان جمعها لتحقيق غرض واحد أسلم وأعلم وأحكم. وبعد، فإن علماء الاسلام قديما وحديثا ساهموا في ترشيد التعليم الديني والشرعي حتى يقوم بدروه، ويُحقّق أغراضه على أكمل وجه، ولا يبقى المتعلم نسخة مكررة لشيخه أو لمتنه ويغيب دوره كمسؤول عن بناء وتكييف الحياة الحاضرة وهمومها، ومن أولئك العلماء علامة الجزائر عبدالحميد بن باديس (ت:1359ه) رحمه الله. ورغبة في التنويع والإيضاح، وإيصال الفكرة بأكثر من وجه، أحببت إبراز شيء من جهده الحافل عن طريق السؤال والجواب؛ لترسيخ المعلومة وتقريبها للإدراك. وإجابات الأسئلة من نص كلامه رحمه الله: ما الهدف من التحصيل على أهل العلم؟ ابن باديس: الغاية من الدرس على العلماء: فَهم قواعد العلم وتطبيقها حتى تحصل ملكة استعمالها. كيف يكون توسيع دائرة الفهم ونطاق التفكير؟ ابن باديس: توسيع دائرة الفهم يتوصل إليها الطالب بنفسه بمطالعته للكتب ومزاولته للتقرير والتحرير. ما دور الجهد الفردي والمحاورة للرفقاء وغيرهم في توسيع الإدراك؟ ابن باديس: الدروس إنما تحصل فيها قواعد بعض العلوم، وتبقى فنون كثيرة من فنون العلم يصل إليها الطالب بمطالعته بنفسه وحده، أو مع بعض رفاقه، فلا ينتهي من مدة دراسته العلمية في الدروس إلا وقد اتسع نطاق معلوماته بفنون كثيرة. ما الأمر الذي تمنحه العلوم العصرية كالفكر والاجتماع والثقافة ونحوها في توسيع النطاق الشرعي؟ ابن باديس: نرى الطلاب اليوم في أكبر المعاهد كالزيتونة لا يخرج الطالب عن كتبه الدراسية إلى مطالعة شيء بنفسه مما يكسبه علمًا أو خبرةً بالحياة، فيخرج الطالب بعد تحصيل الشهادة وهو غريب عن الحياة. فعلى الطلبة والمتولين أمر الطلبة أن يسيروا على خطة التحصيل الدراسي، والتحصيل النفسي ليقتصدوا في الوقت ويتسعوا في العلم، ويوسعوا نطاق التفكير. [انظر كتاب: ابن باديس حياته وآثاره، للدكتور عمار الطالبي (4/203)، وللتوسع في الموضوع ينظر كتاب: «تكوين الذهنية العلمية»]. فالمحصّل أن بناء المعارف يستمد قيمته الأساسية من خلال تأثيره في الحياة، وفاعلية دوره في نماء عقلية المتلقي، وهذا يتكون بكفاءة أكثر بتنويع وسائل الحصول على المعرفة، واعتبار النظر والاستفادة من العلوم المعاصرة التي قد يتوقف وصول التصور الصحيح للحكم الشرعي وتوظيفه اعتمادا على الوعي بها؛ لذلك فإن من النقص: الجهل بشيء من المعارف الدنيوية بإطلاق وحمد ذلك، أو إعلان العداء فخرا لتلك العلوم، والجهل لم يكن محمودا قط! «ومن لم يعرف أسباب المقالات - وإن كانت باطلة - لم يتمكن من مداواة أصحابها وإزالة شبهاتهم»، والعلم قد يضمحل ويتلاشى ولكن ليس بموت الحاملين له فحسب، بل أيضا بفقدانهم قيمتهم الفكريّة. فالمعلومة الساكنة في الذهن بحاجة لما يبث الروح فيها بإثارة التساؤلات المنطقية؛ لكي تؤتي أكلها وتثمر في الحياة، وذلك لا حدود له {قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين}[الأنعام:11]، والحمد لله من قبل ومن بعد. باحث وكاتب في الدراسات الشرعية [email protected] m_alansary1@