انتقد باحث شرعي في دراسة علمية أجراها أخيراً، مسالك التلقي السائدة في بعض المجتمعات العربية للعلوم الشرعية، وعاب عليها الغلو في «التلقين» وإقرار حفظ «المتون»، الذي لا يرى الاستغناء عنه ممكناً، وإنما الخلل جاء من وراء الطريق المتبع في البناء الكلي لذهنية دارسي علوم الشريعة واللغة العربية. جاء ذلك في دراسة للباحث محمد حسين الأنصاري، سمّاها «تكوين الذهنية العلمية... دراسة نقدية لمسالك التلقي في العلوم الشرعية»، جمع فيها بين البحث، وخلاصة تجربته الذاتية، بوصفه، قضى أكثر من عقدين في المحاضن الشرعية في الحلق العلمية، والفصول النظامية. ولم يكتفِ الباحث بالنقد الذي كان صريحاً فيه للمسالك الرائجة في محيطه الشرعي، وإنما تجاوز إلى طرح بديل منهجي، لبناء ذهنية علمية متينة، لدارس العلوم الشرعية، في الدراسة الصادرة عن دار «الميمان»، وتعرض في معرض كتاب الرياض للمرة الأولى. وما حمل الأنصاري على التصدي لموضوع حساس كهذا كما يقول، هو أن «الذهنية العلمية في الوسط الشرعي العام، وفي محافل التدريس العلمية تعرضت لأمرين، أولهما: الغلو في صناعة القوالب والأشكال التي يُقدّم فيها العلم كالمتون والمنظومات، وثانيهما: المبالغة في طريقة الأداء والعرض بأسلوب التلقين، والإلقاء التقليدي المباشر! والخلل في هذين الأمرين كان له مردود سلبي في تنمية مسائل العلم، وتطويرها بالنقد والتحرير، وعدم الرجوع لمصادره الرئيسية المكوِّنة له ابتداء، ومصنفاته الأصلية الموسعة»! ولمزيد من التوضيح، أشار إلى أن الخطأ في الأمرين اللذين أحوجاه إلى كتابة دراسته، «كان المغالاة فيهما (المتون، والتلقين) وتكريسهما مع إغفال ما عداهما من مسارات التحصيل وأساليب التعلّم الأخرى! وإقالة الذهن وتعطيله بأغلال من المتون والمختصرات الصناعية؛ تَعمّقت أكثر بنشر ثقافة التلقين، وجَعْل الذهن وعاء لتخزين آراء الآخرين - ممثلة في ألغاز مُغْلقَة منثورة كانت أو منظومة - ما أسهم في إضعاف العقل النقدي والتحليلي. وعليه؛ فإن موضوع هذه الدراسة يتمحور حول هذه القضية الكلية، وإماطة اللثام عنها، وتسليط الضوء على نتائجها السلبية، والبحث في أسبابها التاريخية والاجتماعية، ومن ثَمّ محاولة إيجاد المقترحات المكوِّنة للذهنية العلمية الفاعلة. والخلل في الساحة العلمية الشرعية وإن كان ناتجاً في الظاهر من عدم الاتزان والتكامل في مناهج تحصيل العلم وطرقه؛ إلا أنه في حقيقة الأمر ربما يقال: إن مصدره ومنطلقه هو الذهنية التي تتعاطى مع العلم؛ لأنها ألِفَت مساراً واحداً واعتادت عليه، ورأت من تتابع العصور عليه موجباً للزومه وعدم الخروج عنه، فضلاً عن نقده وتعديله»! ما الجديد الذي يقدمه البحث؟ ولأن الكاتب توقع أن يواجه رفضاً باكراً من التقليديين، نصح القارئ المحايد «بألا يعجل في الإنكار حتى يرى الآثار السلبية التي نتجت من المبالغة في هاتين القضيتين، ويختبر الحجج والبراهين المذكورة معها، والأقوال المدعومة بها؛ وعليه فإن لم يقتنع ببعض ما ذكرته فلا أقلَّ من أن يلتمس لي عذراً فيما اجتهدت فيه وتوصلت إليه، {إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب} [هود:88]. وفي مثل هذه الدراسة التي يرتكز جزء كبير منها على التجربة والواقع ربما يحسن بالمستفيد ألا يبقى رهن التاريخ فحسب، وألا يُسلّم نفسه للفكر الماضي وأسلوبه وتجربته؛ كيلا يحاصره في أمر مرجعُه في الأصل إلى حال الناس، وما يحقق غرضهم بأيسر السبل، وإن لم تكن تلك المسالك معلومة من قبل؛ فالقِدَم لا يصلح معياراً لقبول أمر كهذا أو رفضه، كما أنّ اجتهادات الآخرين قد لا تُمثل الحقيقة في نفسها». وفي وقت طغى فيه نقد «التلقين» والتقليد في السنوات الأخيرة، لم يشأ الكاتب أن يمضي قبل توضيح، ما يعتقد أن بحثه يضيفه إلى المكتبة الشرعية، فقال: البحث يمكن أن يقدم للقارئ شيئاً جديداً ومفيداً، ويضيف إلى الجهود السابقة أموراً عدة ربما لا توجد فيها، أو لم تظهر جلياً في موادها، ومجمل ما يضيفه البحث يظهر في الأمور التالية، الأول: معالجة نقدية لبعض الظواهر المؤثرة في تكوين الثقافة السائدة المغالية في اعتماد أساليب السرد والتلقين التقليدي، ما انعكس على تفشي التقليد والجمود الذهني، وسجن العقل في زَبد العلم ومُلَحِه، كما أن البحث يتضمن تصحيحاً لعدد من المفاهيم الفكرية المتعلقة بهذا الأمر. الثاني: يقدّم رؤية مقترحة للتطبيق، ومنظومة متكاملة في بناء الذهنية العلمية في الفنون الشرعية. الثالث: تقديم إجابات حول السؤالات المتكررة في قضايا التحصيل والطلب من «المتون»، وبيان أثرها في العقلية الشرعية. الرابع: المراجعة النقدية للضعف الظاهر في جودة البحث الشرعي الذي يتجلى في عدد من وسائل العلم كالتحليل والنقد. الخامس: السعي في بناء عقلية علمية مؤصلة شرعيّاً متطورة ومتوائمة مع وسائل العلم العصرية ومناهج البحث العلمي التي تساعد في الفهم والتطبيق والتجديد والإضافة. السادس: في هذه الدراسة عدد من الموضوعات المهمة، والأفكار التي لم تبرز بالشكل المطلوب عند كثير ممن كتب في هذا المجال أرجو أن تحقق إضافة بارزة للمكتبة الشرعية، وزيادة للمعرفة الذاتية، كالبحث في نشأة المتون والمختصرات تاريخيّاً، وموقف العلماء منها في الجملة، ونتائجها السلبيّة والإيجابية، وكذا آثار التلقين والغلو فيه، والمقدمة التمهيدية الخاصة بتنظير مسالك التأصيل العلمي، ويضاف إلى ذلك الفصل الأخير من الدراسة المتعلق بمكوِّنات الذهنية العلمية، وتقديم الآليات والمعايير التي تقربنا من اختيار المتون المناسبة للتعليم. السابع: في هذا البحث محاولة لإبراز عدد من أقوال العلماء النقدية والبنائية في هذا المجال التي لم تأخذ حقها من الذيوع والانتشار مع أهميتها البالغة، وحرصت على الإكثار من النقل في المعنى الواحد؛ ليُعلم أن نقد هاتين الظاهرتين ليس جديداً ولا يعد جناية على العلم، ومن مقاصد ذلك أيضاً إيجاد التوازن بين مسالك العلم، والنظر ابتداء في مسوغات الأقوال وحججها. الثامن: ربما يجد المتخصص في أصول الفقه والمشتغل به إضافة يسيرة في الأمثلة التطبيقية المنثورة في البحث، ولا سيّما في الفصل الأخير. ترميز التراث المتقدم الباحث الأنصاري حذر من ترميز «التراث المتقدم» أو إلغائه، وذلك أن «محاولة إلغاء التراث بالكلية وتقويضه إعلان للانهزامية أمام الحداثة المعاصرة، ومد الأعناق إليه في كل نوازلنا ومجالنا التداولي عجز محقق وإراحة للذهن عن تكييف واقعنا والتفاعل معه! في كلتا الصورتين اللتين تنزعان إلى المغالاة في طرف مع إهمال غيره يكمن الخطأ في موقفنا من التراث ككل بما في ذلك المتون، وإن كانت الصورة الثانية أقل خطأ من الأولى باعتبار تعلقها بتراثها جملة وتفصيلاً بخطئه وصوابه دون الاستعاضة عنه بغيره. وعليه فإن الموقف من المتون والمغالاة فيها لا يختلف عن الموقف نحو التراث ككل، ومصدر ذلك وأساسه هو في التقليد المحض وترميز كل تراث متقدم دون الإضافة والتخصيص؛ فالتراث الإسلامي نتاج بشري يتأثر بالزمان والمكان، والعصمة والقدسية التي للوحي والشرع المنزّل (كتاباً وسنة) لا تمتد إلى اجتهادات العلماء وتوظيفاتهم؛ فما كان مضافاً للبشر هو محل نقد ونظر بالأسس والمعايير المتفق عليها، وأما الشرع المنزّل المضاف لرب العزة والجلال وأمينه عليه الصلاة والسلام على وحيه، فهذا لا سبيل لنقده المباشر، وإنما القول فيمن يقوم بتنزيله وتطبيقه على غير مراده». وأضاف: إننا ما لم نستقل بوسائلنا العصرية التعليمية دون إهمال لمواد تراثنا ونصوصه، ونخفف من الاقتراض غير المنضبط لوسائل تاريخ مضى وانقضى، لن نُقدم خدمة جليلة لتاريخ أمتنا فضلاً عن واقعنا؛ فنحن حين نقوم بعرض نصوص أئمتنا وتراثهم بوسائل عصرنا نُقدم لهم ولزماننا إضافة علمية محققة، وبذلك نعيد تراثهم للحياة العملية القائمة بعدما طمرته عصور الانحطاط البائدة، والاعتبار التام لوسائلنا لا يعني القطيعة مع تراثنا وإعلان الخروج عنه كما قد يتوهمه البعض، ب هو مواءمة مع زماننا (أولاً) وجَعْله معياراً (ثانياً) لما يُقبل ويرد ما دام الأمر في نطاق الوسائل فحسب، وفي دائرة المباح. ونظر الباحث إلى ما تجده «المتون» من إقبال على أنه «ترميز كل متقدِّم متناً كان أو مختصراً»، إلا أنه أعقب نقد تلك الوقائع، بمواقف علماء تجاه المتون، رفضوا المغالاة فيها. وهو محاولة منه قال إنه يسعى بها إلى أن يقوم الناظر بتفكيك منظومة التقليد التي بسطت ذيولها، والكشف عن مساوئها في العلم والتعليم، ومحاولة لإعادة الذهنية الساكنة في تاريخ غابر (بآلامه وأحزانه وخطئه وصوابه)، وإيقاظها وبث الروح فيها؛ لتتقدم بواقعها وتراثها نحو المعالي والمجد». ومن المآخذ المجملة على «المتون والمختصرات» كما أوضح، «أن طابعها العام في الخطاب والعرض لا يُحفّز الذهن على التساؤلات والإشكالات فضلاً عن الاعتراض والنقد؛ ما يعوق الاستفهام التحليلي في ابتداء التحصيل الذي يأتي: بكيف؟ ولماذا؟ فالذهن في محافل التدريس (العامة والخاصة) يتطبّع بكم هائل من المعلومات، ويُرسِّخها أكثر بسؤال: ماذا تعرف؟! ولا يهمه أن يدري لماذا هذا الأمر كذا؟ ولا كيف كان كذا؟ فالمختصرات الواضحة التي وضعت للمبتدئ، بمقدورها تبسيط مثل هذه الأسئلة التي تُعوِّد الذهن على الاستشكال، كما هو الشأن في بعض المناهج التعليمية في البلاد العربية. لماذا يُفرض على المنهج الشرعي في حلق العلم دائماً أن يكون مصفوفاً صفاً واحداً من أوله لآخره، لا وجود فيه لسؤال ولا استشكال ولا تمرين».