مضى على الناس زمن كان فيه من يطبع كتابًا يكون قد دخل ضمن جماعة العلماء أو الأدباء والمفكرين، كأنما طباعة الكتاب هي جواز المرور إلى هذا العالم الذي لم يكن يعرف العلماء أو يقدمهم للآخرين إلاّ من خلال عدد كتبهم المطبوعة، ولهذا فإنهم حين يذكرون سيرة فلان من الناس يشفعونها بقولهم وقد ألّف عددًا من الكتب طبع منها كتاب كذا وكذا، أو يقولون وله عشرون كتابًا مطبوعًا، من أجل هذا كانت طباعة الكتب مختصة بالعلماء الكبار ولم تكن المطابع ودور النشر معنية بالناشئة أو المبتدئين بقدر ما كانت حريصة على الأسماء المشهورة الذين لهم باع في التأليف والنشر، وربما كان ذلك بسبب رغبتها في بيع وتسويق تلك الكتب التي تلقى رواجًا في حين تبقى مؤلفات غير المعروفين رهينة المخازن ولا تدر ربحًا للناشرين. ومع كثرة دور النشر في العالم أصبحت هذه الدور تتسابق في تلقف المؤلفين ونشر كتبهم مهما كان مستواها، ولم تعد معنية كثيرًا بمسألة التوزيع لأن هذا قد يكون عن طريق جهات أخرى، وإن قامت هذه الدور بالتوزيع فإنها تكون قد حصلت كامل حقوقها من المؤلف قبل خروج العمل من المطبعة. ولعلنا نتذكر ما كانت تقوم به بعض المطابع ودور النشر في بلدان عربية مثل مصر ولبنان وسوريا من استيفاء كامل على حقوقها حسب العقود قبل فسح الكتب للتوزيع، وهو أمر جعلنا نرى في معارض الكتب أعدادًا كبيرة من المؤلفات تملأ الرفوف، وبعضها يوزعها مؤلّفوها مجانًا مع التوقيع عليها، ويبحثون عمّن يصرفها لهم وهو مكسب آخر لدور النشر والمكتبات. ومع تراكم هذا الغث من المؤلفات تأثرت سمعة العديد من دور النشر العريقة، وبدأت تظهر أسماء لدور نشر جديدة تطبع كل شيء ولكل أحد بأرخص الأسعار، وتجد مطبوعاتها في كل مكان ولا يهمها جودة المضمون أو جودة الورق والإخراج. وقد أصبح المؤلفون في مرحلة تالية غير معنيين بكثرة الكتب لأنها لم تعد دليلاً على ضلوع العالم في مجاله ولا مقياسًا لموقعه بين أقرانه، بل إن التقنية الحديثة اليوم قد زاحمت المطابع ودور النشر حيث من خلالها يعرض المؤلفون كتبهم وربما يكتفون بعرض أفكارهم الجديدة فقط على مواقع التواصل الاجتماعي، ولم يعد نشر الكتاب الورقي اليوم مسألة يتنافس عليها الراغبون في إثبات الذات المعرفية أو تقديم المنجز الإبداعي.