لئن كان العلم نقطة، كَثّرها الجاهلون. فقد أصبح العلم اليوم يبدأ من إرجاع نُقَط الجهل إلى تلك النقطة الواحدة، هي نقطة العلم. وهو ما يُسمى بالجمع بين الأقوال المتنازعة في الظاهر، المتوافقة في الحقيقة. على عكس ما يفعله الجاهلون من السعي لتكثير المقالات واختراع الخلافات، سعيًا في إظهار سعة الاطلاع ! فإن تبين أن هناك نزاعا حقيقيا، في مسألة لا يصح فيها التنازع (قطعية المأخذ)، والذي خالف فيها عالم (وليس جاهلا)، فلابد أن تجد في مقالات هذا العالم (هو نفسه) ما ينقض أصل مقالته من مقالاته نفسها، فبين ذلك، وأعد نقطة الجهل إلى نقطة العلم؛ لتدمغها؛ ولتلزم الناسَ بهجر مقالته؛ لأنه لا يُنسب لمضطربٍ مذهبٌ فيما اضطرب فيه، إنما المذهب ما اطرد طردا وعكسا، وصح تأسيسُها (بجعلها أساسا) والبناء عليها (بالتفريع عليها). ومن نماذج هذا المنهج الذي يعيد العلم لنقطة البداية: هذا المثال من كلام الإمام المازَري (ت 536ه) في كتابه (شرح التلقين)، حيث ذكر الاختلافَ فيما لو اختلف اثنان في تحديد جهة القِبلة، هل يصلي أحدهما خلف الآخر؟ فقال: «وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي: إعادتهم الصلاة تجري على اختلافٍ في هذا الأصل، وذكر قول أشهب فيمن صلى وراء من لا يتوضأ من مس الذكر: فإنه لا يُعيد، و صلى وراء من لا يتوضأ من القُبلة: فإنه يعيد أبدًا؛ لأن القُبلة من اللماس. وقال سُحنون: بل يعيد أبدًا: بحدثان ذلك، فإن طال: لم يُعد. فخرّجَ الشيخُ أبو الحسن على هذا صلاةَ المالكي خلف الشافعي، والشافعي خلف المالكي، ورأى أنها يُختلَفُ فيها ! وإجراءُ الخلاف في ذلك على الإطلاق (عندي): لا يصح. وقد حكى حُذَّاقُ أهل الأصول: إجماعَ الأمة على إجزاء صلاة الأئمة المختلفين في الفقه بعضهم وراء بعض؛ لأن كل واحد منهم يعتقد صاحبه مصيب: أن كان يرى كل مجتهد في مسائل الفروع مصيب، وإن كان يرى الحق في واحد: فإنه لا يقطع بأنه وافقه دون صاحبه الذي خالفه؛ فلهذا صحت صلاة بعضهم وراء بعض. والذي أشار إليه أشهب من الإعادة في القُبلة أبدًا، فإنما ذلك؛ لأنه اعتقد أن المسألة من الوضوح بحيث يكاد يبلغ مسائل القطع التي يُقطَعُ فيها بخطأ المخالِف. وهذا معنى قوله: أن القُبلة من اللماس، يعني: أنها إذا كانت من اللماس، وكان القرآن قد جاء بإيجاب الوضوء من اللماس = صار ذلك يكاد يلحق المقطوع به، لما كان مما جاء به القرآن. وأدلُّ دليل على صحة ما تأوّلناه: - تفرقتُه بين مس الذكر والقُبلة في إيجابه الإعادة. فلو كان جميعُ ما اختُلف فيه يجري مجرى واحدًا، لما صَحّت التفرقة. - وأيضًا فقد نصَّ أصحاب مالك على: نَقْضِ أحكامِ القُضاة في مسائل اختُلف فيها، وإمضاءِ أحكامهم في مسائل أُخر، وأشاروا إلى ما تأوّلتُه عليهم، وأن ما كان من المسائل التي وردت فيها الأحاديث الثابتة التي لا تأويل في إسقاطها، فإن حكم الحاكم يُنقضُ إذا خالفها. وهذا واضح لا مِراء فيه. فلا وجه لإطلاق القول لإجراء الاختلاف في هذه الصلاة في كل مسائل الخلاف». انتهى كلام الإمام المازري. وهذا مثال رائع من بين ألوف الأمثلة (ولا تستكثروا الألوف) لما ذكرته في التقديم لهذا النقل ! فصلاة مختلفي المذاهب وراء بعضهم دعوى الاختلاف الحقيقي فيها دعوى حادثة، ولعلها نشأت في القرن الخامس الهجري. وصار هناك نزاع لا يقول به أحد من أهل التحقيق: هل يصلي المالكي خلف الشافعي؟ وهل يصلي الشافعي خلف الحنفي؟ وهل يصلي الحنبلي خلف غيره؟ ولم يكن لهذا الاختلاف وجود قبل ذلك؛ لأن مسائل الاختلاف في هذه الأبواب مسائل اختلاف معتبر، وليس فيها مسألة من مسائل الاختلاف غير المعتبر. ولو كان بعض مسائل اختلافها غير معتبرة (مقطوعا فيها بموطن الحق) لما جاز أن يصلوا خلف بعضهم، كمن يصلي خلف من يتيقن كونه غير طاهر، أو كان يتعمد (باجتهاد باطل) أن ينقص ركعة أو يزيد ركعة. وإلا فقد اختلف الصحابة والتابعون في مسائل كثيرة في الطهارة (شرط الصلاة) وفي واجبات الصلاة بين موجب ومستحب، ومع ذلك: هل سمعتم بأحد من السلف أوجب معرفة مذهب الإمام قبل الصلاة خلفه؟ هل سمعتم من يأمر بإعادة الصلاة خلف من يخالفه؟ وما أكثر ما اختلفوا ! لو وقع ذلك لتناقلته الأمة؛ لأنه سيكون نزاعا شديدا، وتضييقا كبيرا، وحرجا بالغا! لا يمكن أن يلتئم معه صف صلاة، ولا يجتمع عليه جماعة مسجد !! فكيف ادُّعي وقوع الاختلاف في ذلك؟! وهذا الإمام المازري يضرب مثالا رائعا لطريقة درس هذه المقالات، في إثبات عدم وقوع الاختلاف فيها، وفي إرجاع المقالات إلى مقال واحد. وقد وافقه ممن جاء بعده: في حكم هذه المسألة، وفي حكاية الإجماع عليها: شيخ الإسلام ابن تيمية ! ومن اللطيف، ومما يؤكد التقديم: أن يكون العلامة أبو الحسن اللخمي الذي حكى اختلاف العلماء في صحة صلاة مختلفي المذاهب خلف بعضهم، كما في كلام الإمام المازري، هو نفسه معروف بتشقيق المقالات، كما نبهت عليه في التقديم !! فهو علامة معروف عند المالكية، له كتاب التبصرة، وهو علي بن محمد الربعي اللخمي القيرواني (ت 478ه). لكن قال القاضي عياض (544ه) عنه، بعد الثناء عليه: ((وهو مغرى بتخريج الخلاف في المذهب، واستقراء الأقوال، وربما تبع نظره، فخالف المذهب فيما ترجح عنده، فخرجت اختياراته في الكثير عن قواعد المذهب)). فإذا عرفت السبب: بطل العجب! وإذا وقع هذا الإمام في هذا الخلل، مع تقدم زمنه وجلالة قدره، فما بالك بمن جاء بعده !