لعلك تردِّد مع عبدالله بن الدُّمَيْنَة الخثعمي الشاعر الغزل، الذي يُحمد له أن أكثر غزله كان بزوجته (حماء): أَلاَ هَل مِن البَينِ المُفَرِّقِ مِن بُدِّ؟ وَهَل لِلَيَالٍ قَد تَسَلَّفنَ مِن رَدِّ؟ أَلا يا صَبا نَجدٍ مَتَى هِجتَ مِن نَجدِ لَقَد زَادَنِى مَسرَاكَ وَجدًا عَلَى وَجدِى إذا هَتَفَت وَرقَاءُ فِى رَونَقِ الضُّحَى عَلَى فَنَنِ غَضِّ النَّباتِ مِنَ الرَّندِ بَكيتَ كَما يَبكِي الوَليدُ وَلَم تَكُن جَلِيدًا وَأَبدَيتَ الَّذِى لَم تَكُن تُبدِى وَقَد زَعَمُوا أَنَّ المُحِبَّ إِذَا دَنَا يَمَلُّ وَأَنَّ النَّأى يَشفِى مِنَ الوَجدِ بِكُلٍّ تَدَاوَينَا فَلَم يُشفَ مَا بِنَا عَلَى أَنَّ قُربَ الدَّارِ خَيرٌ مِنَ البُعدِ عَلى أَنَّ قُربَ الدارِ لَيسَ بِنافِعٍ إِذا كانَ مَن تَهواهُ لَيسَ بِذي وُدِّ وهي أطول من هذا، ولتلهُّب شوقي واغترابي سردت بعض أبياتها، ولأصحاب الذوق الأدبي أن يراجعوها ويحفظوها؛ فهي من عيون الأدب الجميل. أحدهم استدعى المثل الشعبي الشهير: «رضاح العبس» وهو في السياق، حيث قضى نهاره في طحن النوى ليكون علفًا للحيوانات، وترك حفنة آخر النهار لملله واستثقاله ففاته الرهان. كان أحدهم يسكن في الدور الثالث، فيشعر بالتعب في الدور الثاني، وحين انتقل إلى الدور الخامس صار يتعب في الدور الرابع! هذا ليس واحدًا من عيوبك كما تظن، بل هي جبلَّة في الإنسان، تقرأ إيجابيًّا ليدرك المرء كلما قلَّ صبره أنه أوفى على الغاية أو كاد، فيأتيه الوعظ الرباني (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا). وليتذكر اليقظ الحي أن كل بداية فهي نهاية، وكل نهاية فهي بداية، تنتهي مرحلة لتبدأ أخرى، ويركب المرء طبقًا عن طبق، وأجمل اللحظات هي لحظات المعاناة متى كانت مقرونة بالأمل، مصروفة في العمل، ومن الحزم ألا تشعر أنك وصلت حتى تصل فعلًا، فربما حيل بين المرء ومقصده في آخر لحظة. الشيء الجميل أن رضا الله تعالى، وهو غاية المطلوب مما أخفاه الله عن عباده، حتى قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ). وقال صلى الله عليه وسلم، فيما رواه الشيخان عن أم العلاء في قصة وفاة عثمان بن مَظعون رضي الله عنه: «وما أدري والله وأنا رسولُ الله ما يُفعلُ بى». وقد رجَّح غير واحد من أهل العلم أن الرواية الصحيحة: «ما أدري ما يُفعلُ به». يعني بعثمان بن مظعون، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخبره ربه وقال: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، وقال: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى). ولا مانع من تصويب الرواية المشهورة في «الصحيحين»: «ما أدري ما يُفعلُ بى» وحملها على أمور الدنيا، وعلى بعض أمور الآخرة مما لا يجزم به النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال في درجة الوسيلة: «فإنها منزلةٌ فى الجنة، لا تَنْبَغى إلَّا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أنْ أكونَ أنا هو». رواه مسلم. أما سائر البشر، فهم في دائرة الخوف والرجاء، حتى مَن أُخبروا بأنهم شهداء أو من أهل الجنة، ظل الخوف يخايلهم مع التصديق بالوعد، لكن خشية أن يتخلَّف عنهم بسببٍ من أنفسهم، ولهذا استحقوا الوعد الكريم من جنس قول الله تعالى لأهل بدر: «اعملُوا ما شئتم؛ فقد غَفَرتُ لكم». وعلى المرء أن يظل ساعيًا إلى الغاية، حريصًا عليها، متفائلًا بالوصول، معتمدًا على الله، متوكِّلًا عليه، واعيًا بالمرحلة التي يعيشها وبمتطلباتها من الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى، وأن يوقظ مشاعره الداخلية بقوة التحمل، مستذكرًا قول المتنبي: عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ