لا كتب بين يدي، ولا مراجع للإجابة على هذا السؤال الطريف: «هل توافقني الرأي أن الإنسان كلما اقترب من الغاية التي يريد قل صبره»؟! فقط (331) عقلا من عقول شباب (الفيس بوك)، كانت التعليقات الذكورية فيه (144)، والتعليقات الأنثوية (187).. ثمانية عقول لم توافق على الفكرة، وستة لم تبد رأيا قاطعا، و(317) كانت تؤكد صوابية القول، فهو إذن قول الجمهور. فالصبر يزداد مع الاقتراب من الغاية، يؤكد أحدهم، ويضيف آخر أنك كلما ابتعدت عن الغاية قل صبرك حتى يتسلل اليأس إلى بعض النفوس. إحداهن تقول: «أنا عمري ما اقتربت من شيء»! وهذه مشكلة، فأنت يا بنتي تعيشين في قلب الحياة بكل فضائلها ونعمها.. وعليك أن تقرأي سورة الضحى وسورة الانشراح. إذا ضاقت بك الدنيا ففكر في: (ألم نشرح) فعسر بين يسرين تأمل فيهما تفرح وقد اقتبست عنوان المقالة من بيت مشهور لابن النحوي الأندلسي في قصيدة طويلة منها: اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج وظلام الليل له سرج حتى يغشاه أبو السرج وسحاب الخير لها مطر فإذا جاء الإبان تجي وفوائد مولانا نعم لسروح الأنفس والمهج فأشد ما يكون الليل ظلاما قرب انبلاج الفجر، وهذه حجة محسوسة. طرائف الموافقين وإضافاتهم مدهشة، تبدأ بشواهد قرآنية، كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) [آل عمران:200]. فتدرج من الأمر بالصبر المجرد، إلى ما هو أعلى منه، وهو المصابرة ومغالبة الضعف الذاتي والتحديات الخارجية والعوائق، وثلث بالمرابطة، دعوة إلى اليقظة والمداومة، وختم بالتقوى؛ فهي لب الأمر وزمامه. وقوله سبحانه وتعالى: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا) [يوسف: 110]. وهي آية في صميم المعنى، كسابقتها، والاستيئاس ليس هو اليأس، بل هو دونه من استبطاء الفرج والفتح والنصر، وقد جعل الله هذا علامة على قرب الميعاد (جاءهم نصرنا). وهو جزء من طبع العجلة في الإنسان (خلق الإنسان من عجل) [الأنبياء: 37]، ولذا يقوله سبحانه: (فلا تستعجلون) [الأنبياء: 37]. القصة هي أنه كلما اقتربت الغاية زاد حماسي فقل صبري! وعند الاقتراب أرى نشوة الإنجاز تزداد، فيتضاءل معها الصبر، وما أروعها من لحظات يتقد فيها صبرنا إزاء فرح قادم نكاد نلمسه! يريد المرء أن يرى نتيجة جهده وسعيه فيتعجل الخطى ويحس ببطء الوقت في نهاية المطاف. كلما اقتربنا من الهدف زادت جاذبيته، فنحس بالقلق إزاءه.. إنها فيزياء الطبيعة! هو الشوق يكبر ويزداد.. وأبرح ما يكون الشوق يوما إذا دنت الخيام من الخيام! الشغف والحماس هو من طبع الإنسان، وخاصة الفاعل المنتج. أم لعله تبلد الذهن وإصابته بالخمول والكسل غب جهد طويل، فالطالب الجامعي على وشك التخرج يستبطئ الأيام، وقد ظل في الدراسة ست عشرة سنة! وآخر الصفحات من المقرر يكاد الطالب أن يتركها، فقد استنزف ما مضى طاقته وجهده. وحتى الكتاب الذي يقرؤه فتى من باب الثقافة والمعرفة، ربما هم بإطراح الفصل الأخير، لولا أن يتحامل على نفسه، ويتذكر قربه من الكمال والإنجاز. همم البداية متألقة تواقة مندفعة، وطول الطريق يستنزفها جزءا جزءا، حتى إذا أوفت إلى الغاية بدا وكأنها نفدت! حين تقترب من المدينة أو ترى بعض معالمها يغلبك الحنين والشوق، ولعله لهذا تكثف الدوريات عند مداخل المدن! ولعلك تردد مع عبد الله بن الدمينة الخثعمي الشاعر الغزل، الذي يحمد له أنه أكثر غزله كان بزوجته (حماء): ألا هل من البين المفرق من بد وهل لليال قد تسلفن من رد ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد لقد زادنى مسراك وجدا على وجدى إذا هتفت ورقاء فى رونق الضحى على فنن غض النبات من الرند بكيت كما يبكى الوليد ولم تكن جليدا وأبديت الذى لم تكن تبدى وقد زعموا أن المحب إذا دنا يمل وأن النأى يشفى من الوجد بكل تداوينا فلم يشف ما بنا على أن قرب الدار خير من البعد على أن قرب الدار ليس بنافع إذا كان من تهواه ليس بذي ود وهي أطول من هذا، ولتلهب شوقي واغترابي سردت بعض أبياتها، ولأصحاب الذوق الأدبي أن يراجعوها ويحفظوها, فهي من عيون الأدب الجميل. أحدهم استدعى المثل الشعبي الشهير: «رضاح العبس» وهو في السياق، حيث قضى نهاره في طحن النوى ليكون علفا للحيوانات، وترك حفنة آخر النهار لملله واستثقاله ففاته الرهان. كان أحدهم يسكن في الدور الثالث، فيشعر بالتعب في الدور الثاني، وحين انتقل إلى الدور الخامس صار يتعب في الدور الرابع! هذا ليس واحدا من عيوبك كما تظن، بل هي جبلة في الإنسان، تقرأ إيجابيا ليدرك المرء كلما قل صبره أنه أوفى على الغاية أو كاد، فيأتيه الوعظ الرباني (فاصبر صبرا جميلا) [المعارج:5]. وليتذكر اليقظ الحي أن كل بداية فهي نهاية، وكل نهاية فهي بداية، تنتهي مرحلة لتبدأ أخرى، ويركب المرء طبقا عن طبق، وأجمل اللحظات هي لحظات المعاناة متى كانت مقرونة بالأمل، مصروفة في العمل، ومن الحزم ألا تشعر أنك وصلت حتى تصل فعلا، فربما حيل بين المرء ومقصده في آخر لحظة. الشيء الجميل أن رضا الله تعالى، وهو غاية المطلوب مما أخفاه الله عن عباده، حتى قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: (قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) [الأحقاف: 9]. وقال صلى الله عليه وسلم، فيما رواه الشيخان عن أم العلاء في قصة وفاة عثمان بن مظعون رضي الله عنه: «وما أدري والله وأنا رسول الله ما يفعل بى». وقد رجح غير واحد من أهل العلم أن الرواية الصحيحة: «ما أدري ما يفعل به». يعني بعثمان بن مظعون، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخبره ربه وقال: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) [الفتح: 2]، وقال: (وللآخرة خير لك من الأولى) [الضحى:4]. ولا مانع من تصويب الرواية المشهورة في «الصحيحين»: «ما أدري ما يفعل بى» وحملها على أمور الدنيا، وعلى بعض أمور الآخرة مما لا يجزم به النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال في درجة الوسيلة: «فإنها منزلة فى الجنة، لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو». رواه مسلم. أما سائر البشر، فهم في دائرة الخوف والرجاء، حتى من أخبروا بأنهم شهداء أو من أهل الجنة، ظل الخوف يخايلهم مع التصديق بالوعد، لكن خشية أن يتخلف عنهم بسبب من أنفسهم، ولهذا استحقوا الوعد الكريم من جنس قول الله تعالى لأهل بدر: «اعملوا ما شئتم, فقد غفرت لكم». رواه البخاري، ومسلم.. وعلى المرء أن يظل ساعيا إلى الغاية، حريصا عليها، متفائلا بالوصول، معتمدا على الله، متوكلا عليه، واعيا بالمرحلة التي يعيشها وبمتطلباتها من الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى، وأن يوقظ مشاعره الداخلية بقوة التحمل، مستذكرا قول المتنبي: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم.