ملقيًا حجرًا في مياه النقد الراكدة، نجح الكاتب السعودي سعد بن محمد في استثارة عددٍ كبيرٍ من النقاد، والأدباء، والإعلاميين الذين شاركوا أمس في حفل تدشين كتابه الجديد «قيل.. ورددت»، وفيما تحوّل حفل التدشين إلى أمسية نقدية توالت فيها الأسئلة، حرص الكاتب على توضيح حقيقة أن كتابه ليس استعراضًا لما يدور حوله ممّا يحبّه، أو يرفضه، وإنّما هو محاولة للوصول إلى أمرين لا ثالث لهما.. الأول هو النظرُ إلى نفسه، ووضعها في مكانها، وفي مكان الطرف الآخر بكلِّ دقةٍ حتى يظهر بقدر ما يستطيع ما يدور بداخله وداخل الآخر.. والثاني التأكيد على أنه لا يضع نفسه في أيٍّ من القوالب التي تضطره إلى اعتصار روح الكلمات من أجل أن يكتب، وإنّما لإطلاق العنان لروحه لتُخْرِجَ ما بداخلها، متمنيًا أن تنتقل هذه العدوى لمَن سيقرأ كتابه، فيبدأ البحث في داخله، ويعيد اكتشاف ذاته.. وحسنًا فعل الأديب الدكتور عبدالعزيز خوجة وزير الثقافة والإعلام، وهو يعلن في مقدمة الكتاب أن «النصوص الأدبية اليوم أضحت تحمل صورًا شتّى من الإبداع، والتنوّع، من دون أن تضيقَ بقوالب جامدة ومحدودة». وتتلخّص فكرة الكتاب -الذي تم تدشينه في قاعة الملتقى بجدة- في الردِّ بتلقائيةٍ وعفويةٍ على أقوالٍ لكتّابٍ، ومفكرين، وشعراء.. وجاءت الردودُ المتدفقةُ أشبهَ بحواراتٍ فلسفيةً، ومكاشفاتٍ ذاتيةً سرعان ما سرى تأثيرها في نفوس الحاضرين، بعد أن نجحَ الكاتبُ في تقمّص شخصياتهم، وشخصيات غيرهم من أفراد المجتمع.. ومن ذلك -على سبيل المثال لا الحصر- ردود سعد على سؤال يقول: بعد أن تجاوزتَ عامك الأربعين.. ولم يعدْ يفصلك إلاّ بضعة أعوام.. عن انتصاف القرن، هل وجدتَ لديك ما تقوله؟ هنا يتقمّص الكاتب سعد بن محمد شخصياتٍ متعددةً قد تجدها في نفسك، مثلما يجدها آخرون كثر في نفوسهم.. يقول سعد ردًّا على السؤال: أعترف.. أنني متطرف في الاعتدال.. أعترف.. انني أنتصف حبل الوقت.. وإن طال.. أعترف.. أنني راضٍ على الحظ.. وإن مال.. على أن هذا الرضا في ردّه الأول سرعان ما يتحوّل إلى ما يشبه الفرح وهو يقول: أعترف.. بأنني ملك.. رعيتي الخلايا.. أرضي المدى.. وحكومتي الخبايا.. عرشي.. في أي مكان أكون فيه.. ملك نفسي.. وأفكاري.. جواري وسبايا. لقد تجاهل سعد بن محمد هنا -عن عمد- أسوارَ النصِّ الشعريِّ ، رافضًا -كما يقول- اعتصار روح الكلمات من أجل أن يكتب، حيث أطلق العنان لروحه كي يخرج ما بداخلها.. ولأنها بالفعل ردودٌ خارجةٌ من القلب، فقد أحدثت تأثيرها الواضح في نفوس الحضور، فراحوا يسألون تارة، ويجيبون بأنفسهم عن ما طرحوه تارة أخرى. ربما كان ذلك هو مصدر الفرح الذي بانت ملامحه على وجه سعد بن محمد في نهاية الاحتفال، معبّرًا عن ذلك بقوله: يتملّكني الآن مزيجٌ من أحاسيس تجعلني أشعر بسعادة غامرة، أولها هذا الحضور المكثّف من الضيوف، الذين أثروا هذا الاحتفال بتشريفهم لنا. هذا على المستوى الشخصي، أمّا على مستوى الهمِّ، أو الشأنِ الأدبيِّ، فقد جاء الحضور الكثيف -كما يقول سعد بن محمد- بمثابة شهادة دامغة على اهتمام المجتمع المحلي بالثقافةِ والآدابِ، وعدم صدق النظرة المتشائمة التي ترى أن الاهتمامَ بالشأنِ الثقافيِّ أصبح في ذيل القائمة.