هناك مَن يلد بقدم واحدة، ولكنه بأحلامه العظيمة يُعلّم الآخرين اجتياز الحواجز. وهناك مَن يخرج للحياة كفيفًا، ومع ذلك يستطيع اقتياد الظلام لحافة النور. ليس شرطًا أن تكون زعيمًا ليهتف الناس باسمك، ولا أن تقتحم حقل ألغام، أو تلقي بجسدك في طريق دبابة من أجل أن تسجلك العدسات، ويتناقلك الفضاء رمزًا ثائرًا في سبيل السلام. هكذا كانت تقول السمراء (وانغاري ماثاي) قبل أن تودّع هذا العالم، الذي طالما علمته رقصة السلام، وزيّنته بالخضار. ماثاي ذات الملامح الصلبة كجبال كينيا كانت تقطر خيرًا من أجل هذه الأرض التي عاشت عليها. برغم الفقر والحروب إلاّ أنها ظلت تناضل من أجل حياة أجمل للبشرية، وكأنها ينبوع لا يأبه بقسوة الصخر. لم تحمل بندقية، ولم تقذف حجرًا، ولم تخطف روحًا من محبوبها الجسد بقوة الهلاك.. بل عاشت لتزرع. وكأنها كانت تقول للأشياء من حولها: هذه الأرض أرضي، وتلك السماء سمائي، والحرية هي ما تبقى لهذا الجسد المسكون بعواصف المرض. ماثاي لم تكترث بالألقاب، ولم تغيّرها المناصب، وفضّلت أن تبقى هي السمراء التي ولدتها أمها ذات مساء حالك فوق تراب الأرض مباشرة. حقًّا.. البعض يتخلّى عن مناصبه، وكأنها جمرة تلامس جلده، أو فيروس وقح يحاول التطفّل على جهازهم المناعي؛ لأن المناصب والألقاب في نظرهم لها مقدرة على اغتيال إنسانيتهم بمهارة فائقة، كقاتل مأجور يخبئ مسدسًا كاتمًا، أو إبرة ملوثة بسمٍ سريع المفعول. رحلت ماثاي تاركة أشجارها، ووشاح السلام. غيّبها الموت كبقية البشر.. كبائع الخضار الذي أعتاد أن يلقي عليها تحية الصباح، كسائق التاكسي، وعامل الحقل.. وأيضا كالمجرمين واللصوص الذين يملأون الأرض حزنًا. هكذا هو الموت، ونحن أمام هيبته نشعر بالعدل، فبرغم أنه ينتزع منا لذة السعادة إلاّ أنه لا يعترف بالطبقية، ولا الوساطات. عندما يحضر لا يسأل عن اسمك، ولا عنوان منزلك، ولا يسجل موعدًا خاصًا للقائك. الفرق الوحيد هو الذكرى التي ستخلدها الحياة للذين زرعوا السلام من أجل الحياة، كسيدة السلام وانغاري ماثاي. [email protected]