أبدى الأديب والقاص علي فائع الألمعي (الذي يعمل معارًا للتعليم بروسيا) دهشته الشديدة مما حصل في مدينة أبها من تسمية شوارعها وأحيائها بأسماء فيها من التغريب الشيء العجيب. وكان الألمعي قد شارك قبل يومين في محاضرة نظّمها النادي الأدبي بأبها تحت عنوان «أبها التي لا نعرفها.. الشوارع والأحياء.. قراءة ثقافية» قدّمها محمد البريدي وسط حضور كبير من أهالي أبها كما حضرها الأمير سعود بن مساعد بن جلوي مدير المهرجانات والأيام الثقافيه بوكالة وزارة الثقافة والإعلام بوزارة الثقافة والإعلام. المحاضرة بدأت بعرض فيلم تصويري عن مدنية أبها وأحيائها القديمه مع صوت الفنان الراحل طلال مدّاح على أغنيته الشهيرة «شفت أبها في المراعي»، ثم بدأ المحاضر الألمعي في الحديث متغزلاً بأبها، قائلاً: لأبها سحرِها.. وفتنتِها.. وخفّةِ روحِها.. ودلالِها.. لأبها عقوقِها وجفائها.. نكرانِها ونسيانِها.. لأبها وجهِها الوضّاء.. شوارعِها وأحيائها.. ذكرياتِها التي لا تنتهي.. وأضاف: قبل سنوات كانت أسماء أحياء مدينة أبها تمنحنا فرصة الشعور بأننا نسكن أماكن ليست غريبة علينا ولا بعيدة عن ثقافتنا التي تشكّلت في أحضان طبيعة وبشر وحياة بديعة.. أكاد أجزم أنّ عشقنا لتلك المسمّيات جاء نتيجة طبعيّة لتأثير المكان علينا وسطوته، فقد كنّا نشعر بتماهٍ في الحياة، وتآلف قلّ أن نجد له نظيرا.. وحين أقول إنّ هنا كتاباً وشعراء وقصاصاً وصحفيين وعشاقاً كثيرين (وكلّنا عشّاق لأبها) فلأنّني أؤمن في قرارة نفسي بأنّهم أكثر الناس قدرة على استحضار الماضي ورسم معالمه بشكل مقنع وإعطائه الأبعاد المناسبة.. ونقف اليوم بعد عقود على مسمّيات أبها شوارعِها وأحيائها فلا نكاد نصدّق أن شوارع أبها أضحت اليوم خريطة لمدن العالم «دمشق ، وبغداد، وبابل، ويافا، وحيفا، ومكناس، ودار السلام، وأمّ درمان، وصنعاء.. وغيرها كثير.. ولا نكاد نصدّق أن في أبها شارعاً إلى جواره يسكن شاعر سمّي شارع «جيبوتي».. ولا نكاد نصدّق أن في أبها شارعاً سمّي «المجر» في حيّ سمّي «الأندلس».. وحين أقول لا نكاد نصدّق فلأنّ هذه المسمّيات بالنسبة لنا بدت غريبة تنقطع بها الذاكرة ويموت معها الماضي وتنتحر بفعلها كل الأشواق، فلا نجد مبرراً يقنعنا بأن أبها اليوم هي أبها أمس، وأن كل ما طرأ على شوارعها وأحيائها من مسمّيات غريبة يتجاوز اجتهاد موظف اقتنع باسم فوضعه دون أن يحسب حساب تاريخ المكان وثقافة أهله وبراعتهم في التسمية.. أمّا الأحياء فقد تداخلت اليوم، فلم تعد ذاكرة مسنّ تسعفنا نحن السّائلين بحسرة عن بعض الأسماء التي كانت وذهبت نتيجة المحو الكامل أو التداخل غير المبرّر، لأنّ ما رقم قبل عقود لا يجب أن يُمسح في ساعة زمن.. لم نعد نقرأ في أبها اليوم مسمّيات أحياء مثل «مناظر، الطبجيّة، اليمانيّة، الصفيح، النمصا، النميص».. وكأن من عجز عن ابتداع اسم لشارع لم يعد قادراً على ابتداع اسم لحيّ.. ولأنني اقرأ هذه المسمّيات قراءة ثقافية فأنا أكاد أجزم أن الذين كتبوا ما كتبوا لا يحسنون الإنصات إلى وقع كلمات تلك المسمّيات القديمة على الأسماع وإلاّ لما أقصوها.. ولا يجيدون قراءة حروفها بشكل تعبيري وإلاّ لما اقترفوا تلك الجناية في حقّ مسمّيات كانت تطرب لها آذاننا، فتعشقها قلوبنا.. كم مؤلم أن ذاكرة مسنّ أمضى جلّ حياته في أبها متنقلاً بين أحيائها ومسترسلاً في رواية الحكايات وتلقّفها، لا يستسيغ اليوم أن يقف ليقرأ عليه ابنه أو حفيده اسم شارع لم يألفه ولم يرتبط بروحه أو ذاكرته في شيء كالمعادي أو المليجي أوبابل أو عين شمس أو الأهرامات!.. إن مسمّيات شوارع أبها اليوم تجعلنا نعتقد أنّنا أمام مدينة مضطربة وفاقدة الثقة بذاتها ومرتَجَلَة لأنّها لم تكن قادرة على أن تحضر بوجهها الوضّاء ورموزها وكأنّها بلا رموز.. ولا أسماء شعبيّة ولا مثقفين ولا مشاهير.. ولا أثر على أن هنا عقولاً ولا جامعة ولا كتباً ولا قصائد تستحق أن تشهر ولا أحياء خلدت فيها حكاية فاستحقّت أن تُعلّق.. إنّ أبها اليوم غريبة بفعل هذه المسميات.. وإضافة إلى كل هذا الجفاء والتشويه والبلادة والبرودة والغرابة، هناك أخطاء لا يعذرنا فيها عابر، ولا يغفر لنا طالب علّمه أستاذه في المدرسة في كتاب الجغرافيا «أم درمان» ونحن نكتب له «أمّ درماء» ولا «فيلكا» ونحن نكتب له «فليكا» ولا «المأمون» ونحن نكتب له «المأموني» ولا ... ولا .. ولا!.. ولأنّ الغرابة لا تنتهي ...فلم يبق ليّ إلاّ أن أسأل أليس من حقّنا وفاءً لأبها وثقافتها وتاريخها ورموزها وآثارها لمصلحة من تغيب أبها التي أريد لها أن تكون متصالحة مع دول ومدن وشوارع عربية وأسماء تاريخية وعربيّة.. لكنها مع الأسف الشديد لم تكن متصالحة مع أبنائها وثقافتها؟!.. هل يقف وراء ذلك التغيير من يريد تغييب المكان أم أنّها اجتهادات موظف عابر أراد أن تكون أبها المختلفة عابرة؟!. وما إن انتهت المحاضرة إلا وشهدت مداخلات عديدة من الحضور، بدأها الناشط الاجتماعي حسن مخافة الذي قال: إنه حاول مع المجلس البلدي ومع أمين منطقة عسير لتغيير تلك المسميات وقال إنه بعد ثلاثة أشهر سوف يترافع أمام ديوان المظالم يشتكي حال أبها ومسمياتها المغلوطة. كما استغربت كذلك أم كلثوم الحكمي تغريب هذه المسميات، بالإضافة إلى مداخلات من: الباحث الدكتور صالح الحمادي والإعلاميه سامية البريدي، واللواء الركن محمد عداوي وعضو نادي أبها عبدالله حامد وعبير العلي.