الملك وولي العهد يعزيان أمير الكويت    قطار الرياض.. صياغة الإنسان وإعادة إنتاج المكان    رئيس هيئة الغذاء يشارك في أعمال الدورة 47 لهيئة الدستور الغذائي (CODEX) في جنيف    سعود بن مشعل يشهد حفل «المساحة الجيولوجية» بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها    رئيسة "وايبا": رؤية المملكة نموذج لتحقيق التنمية    تطوير الموظفين.. دور من ؟    قصر بعظام الإبل في حوراء أملج    20 مليار ريال مشروعات وعقود استثمارية أُبرمت لخدمة الشرقية    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    إمدادات الغذاء لغزة لا تلبي 6% من حاجة السكان    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    نقاط شائكة تعصف بهدنة إسرائيل وحزب الله    «أونروا»: مليونا نازح في غزة تحت حصار كامل    ولي العهد يتلقى رسالة من رئيس جنوب أفريقيا.. ويرعى المؤتمر العالمي للاستثمار    ضمن الجولة 11 من دوري«يلو».. نيوم يستقبل الباطن.. والجندل في اختبار العدالة    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الهلال ضيفاً على السد القطري    « هلال بين خليج وسد»    الهلال يتوعد السد في قمة الزعماء    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    311 طالباً وطالبة من تعليم جازان يؤدون اختبار مسابقة «موهوب 2»    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    صورة العام 2024!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    أمير تبوك يستقبل القنصل الكوري    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    جازان: انطلاق المخيم الصحي الشتوي التوعوي    بدء التسجيل لحجز متنزه بري في الشرقية    وزير الخارجية يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لوقف النار في غزة ولبنان    القيادة تهنئ السيد ياماندو أورسي بمناسبة فوزه في الانتخابات الرئاسية في الأوروغواي    الاحتفاء بجائزة بن عياف    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    7 أجانب ضمن قائمة الهلال لمواجهة السد    بنان يوسع مشاركات الحرفيين المحليين والدوليين    الرخصة المهنية ومعلم خمسيني بين الاجلال والإقلال    الباحة تسجّل أعلى كمية أمطار ب 82.2 ملم    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    تعليم جازان يحتفي باليوم العالمي للطفل تحت شعار "مستقبل تعليمي أفضل لكل طفل"    وكيل إمارة المنطقة الشرقية يستقبل القنصل العام المصري    حسين الصادق يستقبل من منصبه في المنتخب السعودي    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    الأهل والأقارب أولاً    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المدينة المنوّرة عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 1434ه/ 2013مالضوء يعود إلى منبعه
نشر في المدينة يوم 13 - 07 - 2011


« طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا
جئت بالأمر المطاع
جئت شرّفت المدينة
مرحبًا يا خير داع»
... هكذا صدحت أرجاء المدينة المنوّرة وهي تستقبل نبي الرحمة وسيد ولد آدم أجمعين، سيدنا محمّد بن عبدالله صلّى الله عليه وسلّم.. مهاجرًا إليها في رحلة غيّرت مسار التاريخ، وكتبت سطورًا مضيئات في ذاكرة الأيام.. كانت المدينة المنوّرة الموئل الذي احتمى به الإسلام في فجره الباكر، والكهف الذي لجأ إليه عندما ضاقت عليه الآفاق.. والمحضن الذي منه انبثق النور ليعم أرجاء البسيطة ناشرًا دعوة الحق والفضيلة المبثوثة في خاتم الأديان، وأشرفها..
شرفت المدينة بالرسول العظيم صلّى الله عليه وسلّم.. وتعالى ذكرها بسيرته، وسيرة أصحابه الغر الميامين عليهم رضوان الله جميعًا.. فالانتساب إلى المدينة المنوّرة شرف، والرحيل إليها بغية وأمل، وزيارتها مراد تهفو إليه قلوب العشّاق من الموحدين.. حرم مخفور الأرجاء.. وسوح مطيب الأنداء.. حبيبة الله، وبلد رسوله الأمين صلّى الله عليه وسلّم.. فمنذ أن وطئت قدماه الشريفتان صلّى الله عليه وسلّم ثرى المدينة المنوّرة، استحالت هذه الطيبة المطيبة رمزًا للنقاء، وقيمة مرعية في سجل التاريخ الإنساني لمن يعرف للقيم حقّها، وللفضائل معانيها.. منها تقتبس كل العواصم ضوءها.. فلئن تشرفت جميع المدن بسيماء «العاصمة الإسلامية» في موسم من المواسم المتعاقبات؛ فإن المدينة المنوّرة عاصمة الثقافة الإسلامية أزلًا، تقف بهذا الشرف ويدها في يد رصيفتها المكرمة (مكة)، فكلتاهما عاصمتان أبديتان للإسلام، لا يتغيّر هذا المعنى بتعاقب المواسم، ولا يرتحل بدوران الفلك في تتالي الفواصل والمواسم والسنوات..
ها هم المسلمون اليوم يعودون إليك أيتها الحبيبة المطيبة بالإعلان عنك «عاصمة الثقافة الإسلامية» لموسم 1434ه الموافق 2013م، لقد طاف الاسم أكثر من عاصمة قبلك، لكنه ظل منجذبًا إليك وإلى مكة المكرمة، انتساب عرفان وشرف، انتساب تقدير وحق مرعي.. فالضوء منك يصدر وإليك يعود..
الفرح بإعلانك عاصمة للثقافة الإسلامية لم يكن فرح من وجدوا ضالتهم، ولكنه فرح من يعودون إلى ديارهم بعد أن ذهبوا بصيتك بشارة إلى كل الدنيا..
فرح تجسّد كلمات مضيئات حملت البشارة بالعودة، والتطلّع إلى آفاق جديدة في زمن «تداعي الأمم على قصعتها» في تشبيه الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم لمآل المسلمين حاضرًا.. إذًا إنه الميقات المقدّر، والعودة في الزمن المطلوب، فمن هنا أشرق الإسلام، وإليه يعود لائذًا إن ضاقت المفاوز الجهات..
خصائص المدينة المباركة
ها هو أميرك صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن ماجد، ينثر في سمع التاريخ خصائصك التاريخية والثقافية والاجتماعية التي أهلتك لهذا الاختيار في المؤتمر الذي عقده بقصره مساء الأحد التاسع من شعبان 1432ه الموافق العاشر من يوليو 2011م بمناسبة هذا الإعلان بحضور الدكتور عبدالعزيز بن محيي الدين خوجة وزير الثقافة والإعلام وجمع كبير من أهالي المدينة المنوّرة والمثقفين والإعلاميين.. أرخى التاريخ سمعه للأمير وهو يقول: إن ما تتمتّع به هذه المدينة المباركة من خصائص تاريخية وثقافية واجتماعية واقتصادية أهلتها لتكون عاصمة للثقافة ورمزًا لوحدة المسلمين وارتباطهم بعقيدتهم السمحة.
وأضاف سموّه إن من نعم الله سبحانه وتعالى أن أكرمنا في هذه البلاد بالأمن والاستقرار وتوحيد الكلمة تحت راية التوحيد «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وأكرم هذه الدولة المباركة بأن حملها مسؤولية ورعاية خدمة الحرمين الشريفين وإعمارهما، فقدمت في سبيل ذلك كل ما في وسعها للمحافظة على هذا الشرف العظيم من خلال الاهتمام الدائم بهما حتى أصبحا على ما هما عليه الآن من سعة وتطور وفرت الراحة للحجاج والمعتمرين والزوار، ولأن المدينة المنوّرة قد انطلقت منها الرسالة الإسلامية لتعم أرجاء الأرض، فقد استمرت تحمل شعار الثقافة الإسلامية على مدار الزمن، حيث يفد إليها الناس من كل بقاع الأرض للصلاة في المسجد المبارك والتشرّف بالسلام على خير البرية عليه أفضل الصلاة والتسليم.
خصوصية الحرمين
وزاد الأمير عبدالعزيز بن ماجد: إنه لشرف عظيم للمملكة العربية السعودية أن يتم اختيار مكة المكرمة عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2003 والمدينة المنوّرة عام 2013، فهاتان المدينتان تحظيان بخصوصية فريدة لهما فقط، ففيهما الحرمان الشريفان ومنهما شع نور الإسلام وإليهما يتجه المسلمون في رحالهم، وإذا كانت جميع مدن العالم تحشد جهودها لتشكيل هويتها الخاصة فإن مكة المكرمة والمدينة المنوّرة ليستا بحاجة إلى هذا الحشد لصبغتهما بنور التوحيد والإيمان فلا ينافسهما في ذلك أي مدينة، وكم هو جميل أن يلتقي المسلمون في هذا المكان الطاهر لترسيخ مفهوم الوحدة الثقافية الإسلامية، وتكريس قيم التسامح والوسطية ونبذ كل أشكال التطرف والإرهاب.
وأشار أمير المدينة المنوّرة إلى أن جهود المملكة في خدمة الأمة الإسلامية لا تخفى على أحد وستظل تحمل الفكر الإسلامي الصحيح لمحاربة قوى التطرف والظلام، وهذا بلا شك يحمّلنا مسؤولية عظيمة لا بد أن ندرك أبعادها ونعي أهميتها..
مختتمًا هذه السياحة الأدبية بقيمها الكبيرة بقوله: إني على يقين تام بأن أهل طيبة الطيّبة أهل لهذه التطلعات لأن تجربتهم في هذا المجال معروفة وقد مدحهم الله بقوله جل شأنه «يحبون من هاجر إليهم» فنالوا شرف الزمان والمكان وظل ذكرهم وسيبقى إلى قيام الساعة، وهذا الاختيار سيكون حافزًا لهم لتقديم المزيد من العطاء والشعور بالمسؤولية.. إن هذه المناسبة تعني الكثير للمملكة بحكم دورها الريادي لخدمة الإسلام والمسلمين، وكونها في المدينة المنوّرة سيترتب عليها مسؤولية أكبر بأن تكون متناسبة مع عظم المكان وأهميته.
غمامة من تاريخ باذخ
ولأنك منبع الثقافة، وحروف أبجديتها الناصعة، فكان حريًّا بوزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز بن محيي الدين خوجة أن يقول كلمته في هذا المحفل المهيب، فجاءت حروفه حاملة البشارة والتهنئة ابتدارًا
إلى مقام خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يحفظه الله أسمى آيات الشكر والعرفان لموافقته الكريمة على إعلان المدينة المنوّرة عاصمة للثقافة الإسلامية للعام 1434ه/2013م وحرصه -حفظه الله- على أن تخرج هذه المناسبة الثقافية الكبرى بما يوازي المكانة الدينية والعلمية للمدينة المنوّرة، كما شكر صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والمفتش العام يحفظه الله وصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية لمساندتهما لهذه المناسبة الثقافية الكبرى، كما أزجي شكره لصاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن ماجد بن عبدالعزيز أمير منطقة المدينة المنوّرة على رعايته لهذه المناسبة الثقافية الكبرى وحماسته من أجل إنجاحها على نحو يليق بالمكانة الدينية والثقافية للمدينة المنوّرة.
ماضيًا من ثمّ إلى القول: حين تكون في هذه الأرض فحسبك أن تقول: المدينة المنوّرة وتقف! حسبك أن تقول ذلك لتنداح عليك غمامة من تاريخ باذخ، ما عرف الزمان مثيلًا له.. إنه تاريخ الدين الخاتم، تاريخ هذه الأمة الوسط، وتاريخ هذا المكان الطاهر الذي أصبحت للإسلام فيه مدينة وعاصمة وحضارة وثقافة.. إنها المدينة المنوّرة مهاجر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، وبلد الأنصار رضي الله عنهم هذه المدينة التي شرفها الله بتلك الهجرة المباركة، وبان ضم ثراها الجسد الشريف، وشهدت المآثر الإسلامية العظيمة التي كانت ولا زالت نبراسًا لمعاني الخير والعدل والسلام وأنشأت ثقافة عظيمة عم نورها المشرق والمغرب وها نحن هؤلاء نحتفل لإعلان المدينة المنوّرة عاصمة للثقافة الإسلامية للعام 1434ه/2013م ولنتذكر جانبًا من جوانب هذه المدينة العظيمة.
فعلى مدار أربعة عشر قرنًا كانت الثقافة الإسلامية ذات موقع فريد في الثقافة الكونية ولعل أظهر ميزة في الثقافة الإسلامية تلك القابلية العجيبة للتكيف مع المجتمعات التي تنشأ فيها، إنها لا تنفي ولا تهدم ولا تمنع ولكنها تستجيب لظروف كل مجتمع تحل فيه وهذه مسألة يلمحها كل من ساح في مناطق مختلفة من العالم كان للإسلام فيها وجود، حينها نرى تنوعًا مدهشًا في أنماط الفنون والآداب والموروث، ولكن ذلك يستجيب لجذرٍ عميقٍ في فلسفة الحضارة الإسلامية، إنها حضارة تُعلي من معاني العدل والحرية والتسامح والتعايش. وإن من ينظر في التراث العلمي والفلسفي عند المسلمين، يعجب لروح الإنصاف واحترام الثقافات الأخرى، إنهم لا يرون الثقافات الأخرى من منظور «المركزية» التي تهيمن على الثقافة الغربية في العصور الحديثة، ولكن الثقافة الإسلامية تُنزل الحضارات السابقة لها والمعاصرة لها، منزلها من الاحترام، وتطلق عليها عبارات جميلة، فعلوم الأمم السّابقة (علوم الأوائل)، واليونان (أهل العقل)، والهند (أهل الحكمة)، وحين يُعبّر الفلاسفة المسلمون عن بالغ احترامهم وإجلالهم لمنجزات الفلاسفة اليونان، فأرسطو (المعلم الأول)، والفارابي (المعلم الثاني)، وقس على ذلك ما نقرأه في كتابات ابن قتيبة والجاحظ وأبي حيان التوحيدي من احتفاء بالثقافات الأخرى، فحضارات الإسلام التي نبتت جذورها وأصولها من معين القرآن الكريم والسنّة النبوية المشرفة إنما تقوم على التنوع والانفتاح على ثقافات الأمم، وأصل ذلك دعوة القرآن الكريم في قول الله تبارك وتعالى [يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله اتقاكم إنّ الله عليم خبير].. ومن هذه الأصول العميقة لثقافتنا الإسلامية جاءت دعوة وزراء ثقافة دول منظمة التعاون الإسلامي للاحتفال بعواصم الثقافة الإسلامية وكانت هذه الدعوة مناسبة طيّبة للتعريف بما أسدته مدن إسلامية متعددة لتاريخ الثقافة الإنسانية.. والأساس الذي قامت عليه الثقافة الإسلامية هو أساس التعارف والحوار، وهو أساس قرآني، ما يعني أنه أصل من أصول النظرة الإسلامية للأمم والثقافات والمجتمعات، وعلى ذلك استوعبت الثقافة الإسلامية الثقافات المختلفة وأنزلتها منزلة محترمة في سلم الحضارات.
جوهر التعايش والتسامح
ويتابع خوجة حديثه بقوله: ومن هذه الأرض الطيّبة.. من المدينة المنوّرة وشقيقتها الكبرى مكة المكرمة استمدّت الثقافة الإسلامية جوهر التعايش والتعارف والتسامح كما نعرفه في مواقف وأحداث تاريخية متعددة وتأصلت هذه الروح عمليًا حيثما رأينا عواصم الثقافة الإسلامية التي استوعبت المختلف والمغاير من الأندلس في أوروبا وحتى مشارف الصين وفي آسيا الوسطى والأناضول وجنوب شرق آسيا وفي شبه القارة الهندية الباكستانية وأفغانستان وإيران وفي قلب العالم الإسلامي في شبه الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام ووادي النيل في مصر والسودان وبلدان المغرب العربي وفي تمبكتو ودول جنوب الصحراء وفي أعماق إفريقيا.. في كل تلك البقاع تأسّست ثقافة إسلامية ذات إشعاع إنساني، في دورات عجيبة في حركة التاريخ والجغرافيا، وكأن العواصم الإسلامية تتناوب، عاصمةً فعاصمةً، في حمل لواء الثقافة الإسلامية، على صورةٍ بالغة الطرافة، نجدها حينًا من الزمن في مكة المكرمة والمدينة المنوّرة، ثم نجدها في الكوفة والبصرة فدمشق فبغداد فحلب فغرناطة فالقاهرة والقيروان وتلمسان وشنقيط، ثم نجدها في بخارى وسمرقند وزمخشر وأصفهان وقونية وبست.. تتنوّع الأسماء وتختلف الوجوه وكل تلك المدن وكل تلك العواصم تفتخر بانتسابها إلى مكة المكرمة والمدينة المنوّرة، حيث الشجرة المباركة التي تروى من معين الدين الخاتم.
إن من عايش بالقراءة والبحث تاريخ الثقافة الإسلامية يدهش لتلك الوحدة الثقافية التي تجمع مثقفي المسلمين في ثقافة واحدة، نراها ماثلة في الكتب التي تُقرأ هنا وهناك، وكأن أولئك المثقفين في جامعة واحدة تتوزع فروعها على عواصم العالم الإسلامي كافة، وأبرز مثال على ذلك إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه فكتابه «الموطأ» من أهم مدونات الحديث النبوي الشريف، ألّفه في المدينة المنوّرة وسرعان ما تناقله الركبان من بلد إلى بلد، وأسّس لمعرفة عظيمة ومذهب فقهي كبير وتناولت هذا الكتاب العظيم أيدي الشراح والمؤلفين.. وعلى ذلك ما نراه في كتب التراجم من انتقال المؤلفات الإسلامية من بلد إلى بلد، ويعجب الإنسان للكتاب الإسلامي كيف عبر الصحراء والفيافي والجبال، وكيف جاز الأودية والوهاد، وكيف تنقّل من حمارة القيظ، إلى صبارّة القُرّ، وقطع مسافات طويلة لينتشر في كل البلدان الإسلامية، ويعرف زملائي المختصّون في علوم الشريعة واللغة العربية ذلك، ولعلهم يعجبون لكتاب ألّفه صاحبه في مدينة (بست) في أفغانستان الحالية أن يقرأه المثقفون المسلمون في مكة المكرمة والمدينة المنوّرة وزبيد وفي بغداد والقاهرة والقيروان وتلمسان وتمبكتو.. إنها وحدة الثقافة الإسلامية التي تجمعنا ولا تُفرّقنا.
شرف الانتساب
كلمات خوجة عن المدينة المنوّرة تمضي في سياق المحبة بما أضافه قائلًا: مهما تحدثت عن الثقافة الإسلامية في شرق العالم الإسلامي وغربه ومهما تنوّع الحديث وتفرّع فإنه أبدًا ينتسب إلى هذه الأرض الطيّبة، إلى المدينة المنوّرة التي تكوّنت فيها الأصول الأولى لهذه الثقافة الإسلامية الوارفة الظلال، ففي المدينة المنوّرة تكوّنت أُسس العلوم الإسلامية في علوم القرآن والفقه والأدب والتاريخ وحتى أصبح من المشهور والمألوف في الكتب العربية القديمة أن يخصّوا علماء المدينة بمدرسة في الفقه والقراءات والحديث، أما المسجد النبوي الشريف، فكان جامعة أولى للعلوم العربية والإسلامية ولطالما شهدت حصواته وأروقته حركة علمية دؤوبة لم تنقطع في يومٍ من الأيام، ولقد حلا لكثير من العلماء أن يتمّوا مؤلفاتهم وهم إزاء الروضة الشريفة، وكم تباحث أستاذ مع تلاميذه هناك، وكم أجاز عالم عالمًا، في دورة علمية مدهشة وصلت العالم الإسلامي كله برباطٍ وثيقٍ ولا غرابة أن تشهد كتب التواريخ والتراجم لهذه المدينة المنوّرة بتلك الحيوات المختلفة التي شهدتها أروقته المباركة.. أما الأدب فلقد منح شعراء المدينة المنوّرة وأدباؤها -ولا يزالون- الأدب العربي في تاريخه كله خير الآثار الشعرية، وكانت مشاهد المدينة المنوّرة باعثة لألوان من الشوق والتوق، ولا سيما (عروة) و(العقيق).. وهنيئًا لكم يا أبناء طيبة الطيّبة ويا أدباءها بذلك «الوادي المبارك» الذي كم منحنا، ولا يزال، أجمل ما تركه الأدب العربي من نصوص رائعة في الشعر، ولا يزال شعراء المدينة المنوّرة في عصرها الحديث يجدون في هذا الوادي المبارك ما يبعث فيهم الشعر قويًا فتيًا.
حدث ثقافي عظيم
خاتمة حديث خوجة كانت كمبتدئه في سياق المحبة والتشرف بتناول سيرة المدينة المنورة حيث يجمل الحديث بقوله: ما أحلى الحديث عن المدينة المنوّرة وأجمله وأطيبه! وهل من حديث يفوق الحديث عن أرض شرّفها الله بالرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم إنه حديث شائق عن جانب من جوانب هذه المدينة العظيمة، التي أسّست لعلوم الإسلام وثقافته، ولعل هذه المناسبة الثقافية الكبرى التي نجتمع الليلة فيها، من أجل إعلان المدينة المنوّرة عاصمة للثقافة الإسلامية للعام 1434ه (2013م) لعل هذه المناسبة فرصة جليلة للتذكير بما أعطته المدينة المنوّرة المنوّرة لثقافتنا وحضارتنا وأمتنا، وما أعظمه من عطاء! وها هو عطاؤها العلمي والثقافي يسير على نهج ثقافتنا العربية الإسلامية في تاريخها الطويل، حين قيّض الله تبارك وتعالى لهذه البلاد مليكها المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن طيّب الله ثراه وجاء من بعده أبناؤه سعود وفيصل وخالد وفهد رحمهم الله حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يحفظه الله بحفاوته بالعلم والمعرفة والثقافة وحرصه على أن تستمر هذه المدينة المباركة في أداء رسالتها الثقافية التي أُنيطت بها في تاريخ أمتنا الثقافي.. واني لعلى ثقة -بحول الله تبارك وتعالى- أنّ مؤسساتنا الثقافية والعلمية ومن بينها وزارة الثقافة والإعلام ستتنادى إلى هذا الحدث الثقافي الإسلامي العظيم، فعسى أن نُلمح إلى جانب من جوانب هذه المدينة المنوّرة، وأن تتعرّف أجيال المسلمين اليوم على ما قدمته أمتهم إلى العالم حين شع، ها هنا، للحقيقة فجر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.