قال وهو يجر الدخان بحبال حنجرته.. انظر.. ذلك العجوز.. يجفف دمعة.. وينحني ليواري ساقًا من خشب تعرّت عبر شق ثوبه! التفت ورائي.. لم أستطع رؤيته، فأزحت الكرسي قليلًا.. وأملت رأسي. قال.. ربما فجعته حادثة أودت بساقه.. كلا.. قلت.. فالساق الخشبية تدل على أن حادثة القطع قديمة، الآن تحوّلت الأطراف إلى شبه طبيعية، شكلًا ومرونةً.. قال.. ربما لم يمتلك ثمن قدمه.. أقصد شبه الحقيقية.. في لحظة الصمت التي نبتت بيننا أعدت ترتيب ملامحه، خطوط وجهه التي تشبه عروق الجبال، لون ساقه التي اقتطعت من أصل شجرة ماتت عطشًا، عمامته الملفوفة بضعف يد مرتعشة، انحناء ظهره وبياض شعره. - حسنًا هاك خبر جهينة.. قلت. ذلك الرجل كان يعمل في شركة لسيارات الأجرة قديمًا، دهمته حادثة ونجا منها دون ضرر، لكنه غادرها تشاؤمًا بعد ذلك، إنه يبكي الآن فقد زوجته ليلة البارحة، أو بدقيق الكلام يبكي هامش فقدها، تزوجها حين كنت صبيًا أمص الحلوى، لم تنجب له الولد، لكنه أحب معشرها وقدرت رجولته وهدوءه. هل تعرف انه يلعنني الآن، ينظر عبر الرؤوس المحيطة إلى جسدي الذي ترى، يزن كمية الدم التي تسيل في عروقي.. ثم يعاود الدعاء لها، واللعنة عليَّ وعليهم. - من هم؟ - ليلة البارحة طاف على بيوت أقاربه ليتبرعوا لها بدم، منهم من اعتذر ومنهم من لم يفتح له بابًا.. وحين هطل ثلث الليل الثاني ببرودته وحلكته، عاد ليجدها باردة، بيضاء ومتيبسة، بقي إلى جوارها يدخن، يبلل الدمع خديه دون أن يمسحهما.. وحين فتحت زهرة الصبح عينها بالدمع، نهض بعينين حمراوين وقلب مثقوب، لا صديق له، لا أم، ولا ولد، غير أنه همس في أذن البقال وتوسله أن يعينه بيد من رحمة، تململ خلف منضدته العتيقة، وفيما تلا ذلك أشار إليه أن ينتظر خارجًا.. أوقفا عربة أجرة صفراء كالخريف، وحشرا جسدها في صندوقها الذي يشبه القبر في ذهول السائق.. دفناها وصليا عليها.. - تعرف أن المقبرة لا ترد أحدًا.. كنت أشير بسبابتي إلى وجه صديقي. ثم.... قال مقاطعًا: انظر.. صديقك ينهض. وأومأ بذقنه خلفي. من صديقي..؟ قلت في ابتسامة حرصت ألا تبلغ نموها. قال.. إنه يجر قدمه الخشبية.. ها هو يمر إلى جوارنا. قلت لا أعرفه.. ولا أظن أنه يفعل! بينما تحك قدمه مساحة الأرض نحوي. قال: وكيف عرفت تفاصيل ما جرى.. أعني موت زوجته...، و... قلت.. وهل ماتت..؟ جر نفسًا عميقًا، ثم نفث سحابة ثقيلة تلاشت دون أن تمطر.. ثم ابتسم.. ناثرًا سؤاله الآخر.. هل هو جارك؟ قلت: إذن هو جارك إذ أنت جاري..! قال: لا تهزأ بي، ولولا اني أعرفك لقلت إنك.. قلت منهيًا سيل حواره اللاهث: هيا ألن ترحل..؟ وضعت أوراقًا مطوية فوق وجه الطاولة، شربت آخر بقايا كأس الماء قائمًا ورحلت.. كان صديقي لا يزال هناك.. يتأمل المقعد الخاوي للرجل! سرت على الرصيف.. أحشر يدي في شقي ثوبي.. وأراه في كل مكان، وفي أذني سحق قدمه لبلاط المقهى.. أنسج في خيالي بقية القصة.. أسائل نفسي متعجبًا.. يا لذلك الدمع والخشب.. ماذا لو كان ما هجست به حقًّا..؟ رغبت في العودة إلى المقهى، لكنني وجدت نفسي مبهوتًا وأنا أحدق في فرع مقطوع لشجرة يابسة، ربما ماتت عطشًا ذات زمن!