الدهشة أم المعرفة، والسؤال أول الطريق الى التعلم، وفي منتدى جدة الاقتصادي، الذي يختتم أعماله اليوم، رأيت الدهشة وسمعت السؤال وأصغيت الى الإجابة، مصدر دهشتي كان مقدار الوعي العام لدى نخبة من جاءوا لينصتوا، ومقدار الحس النقدي الرفيع لدى من طرحوا الأسئلة، غالبيتهم من الشباب، وبينهم نساء طرحوا أسئلة بدت بذاتها عناوين لقضايا يمكن ان تشغل الباحثين سنين للإجابة عنها. العنوان الرئيس الذي انعقد المنتدى تحته، تحدث عن متغيرات القرن الحادي والعشرين، فيما جرى تخصيص إحدى جلساته (أمس الأول) لبحث ما يسمى ب “التحولات العظمى”. أبرز متغيرات القرن الحالي في رأيي هو عالم ما بعد ثورة تقنيات الاتصال، فالخارطة تبدو غير ما ألفناه في كتب الجغرافيا والمسافات تبدو أقرب مما اعتدنا بكثير، حتى الثقافة واللغة تغيرت وتغير مع كل هذا حجم سوق العمل ونوع العمالة المطلوبة والمهارات التي يتعين أن تمتلكها، ومقدار ومدى المنافسة بل حتى مفهوم المنافسة قد تغير، حيث بات ممكنًا أن يسهم منتج إبداعي واحد في تغيير صورة الحياة بالكامل في بلد بعينها أو لدى شعب بعينه، وكلنا يذكر ما صنعته شركة مثل نوكيا بالخارطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلد مثل فنلندا، حيث نقلت منتجات هذه الشركة شعبًا بأكمله من صفوف فقراء أوروبا الى صفوف أثريائها،فيما استطاعت صناعة البرمجيات أن تنقل ولاية كرناتتكا الهندية وعاصمتها بنجالور من المناطق الأكثر فقرا في الهند الى أعلاها دخلا وأكثرها ثراء، حتى بات سيلكون فالي بنجالور مصدر إلهام لشعوب كثيرة في البرازيل والشرق الأوسط. في جلسة التحولات العظمى بدا أن ثمة اتفاقًا على أن التعليم هو المصدر الأول لصناعة التحولات الكبرى طبقا لاستطلاع رأي أجري في نهاية الجلسة حيث اتفق أكثر من 60% من المشاركين على وضع التعليم في المركز الأول كمجال يتعين زيادة الإنفاق عليه، وإن كنت أرى أن مقدار ما تم تخصيصه للإنفاق على التعليم في المملكة في الموازنة الأخيرة كبير بما يكفي لتطوير التعليم وتحقيق قفزة لا غنى عنها لمواجهة استحقاقات القرن الحادي والعشرين، فالتعليم لا يحتاج إلى مزيد من الإنفاق بقدر ما يحتاج إلى المزيد من التخطيط الصارم لتطوير المناهج بهدف وحيد هو إنتاج عناصر بشرية مؤهلة للتنافس في سوق عمل باتساع العالم، أي أن المناهج يجب أن تستوعب لا ما يحتاجه العمل في الوطن وانما ما يحتاجه العمل في أي مكان فوق هذا الكوكب، ذلك أحد التحديات التي يمليها علينا زمن العولمة ولا نملك ترف تجاهلها وإلا تجاهلنا التاريخ. في منتدى جدة رأيت الأمل يتجدد بمشاركات شباب بدا أروع من اللحظة الراهنة، وفي جلسة الأمس عن الانتاجية أبدى أحد المتحدثين ملاحظة جديرة بالتوقف أمامها، مشيرا الى أن متوسطات أعمار من فازوا بجائزة نوبل قبل ستين عاما كانت في السبعينيات، وفي مطلع الستينيات انخفض متوسط أعمار الفائزين إلى الأربعينيات، أما في التسعينيات فقد ظهرت قيادات إدارية وتقنية بارزة في الثلاثينيات والعشرينيات، ثم أشار المتحدث الى أن ثمة فرصة هائلة أمام مجتمع كالسعودية يملك هذه النسبة الرائعة من الشباب خليق بأن يحقق لبلاده مكانة متميزة فقط إذا ما تلقى تعليمًا مناسبًا ومنافسًا.. ما رأيته في منتدى جدة الاقتصادي من وجوه سعودية شابة ورائعة كان نتاج تعليم جيد وما يمكن أن يحقق طفرة حقيقية لهذا البلد ويضعه ضمن مصاف العالم الأول بصدق هو مزيد من الاهتمام بالتعليم والبحث العلمي ليس بالانفاق وإنما بتطوير حقيقي وعميق للمناهج.