في كل مكان من العالم يمكن أن يولد واقعٌ جديد. وثمة أساليب عديدة لولادة الواقع المذكور لاتقتصر على أسلوبٍ واحد أو طريقةٍ محددة. لكن الشيء المؤكد في منطقتنا أن للشباب العربي الجديد دوراً أساسياً في هذه الولادة لايجب أن يُلغى أو يُحاصر أو يُهمّش بأي درجة. امتلك هذا الشباب العربي توازنات لم يتوقع الكثيرون أنه يمتلكها. ووصل إلى مستوىً من الوعي سبق به كثيراً من شرائح النخب والمثقفين. حصل هذا بأقدار الله ورحمته بهذه الأمة، فلماذا يستكثر البعض هذه الرحمة ويتجاهل تلك الأقدار؟ تفاعل هذا الشباب مع كل ماوصل إليه وهو يعيش ثورة الاتصالات والمعلومات خلال السنوات الأخيرة. قرأ في الدين والسياسة والثقافة وفي كل مجالٍ آخر. وكوّن منظومةً متميزة من الحقوق والواجبات تجاه بلاده وأمته، وأراد أن يساهم في ترسيخ تلك المنظومة. لهذا، سيكون من الظلم بمكان ألا يسارع المعنيون إلى توظيف طاقات مثل هؤلاء الشباب في كل عمليات الإصلاح بشكلٍ فعالٍ ومكثف. وسيكون من الخطأ الفادح أن يتم التعامل معهم على أنهم ضد الأوطان وضدّ الاستقرار، والتعامل مع آرائهم على أنها تهدف فقط إلى الهدم والخراب. سأستشهد في هذا المقال بواحد من أشهر هؤلاء الشباب وهو وائل غنيم. قبل جمعة الغضب في ميدان التحرير بأسبوع كتب في المدونة التي كان يديرها وساهَمت في ولادة الثورة المصرية مقالاً بالعامية المصرية بعنوان (نِفسي). كان الشاب المصري العبقري في بساطته والبسيط في عبقريته يحلم بمصر جديدة في كل مجال. يمكن لمن يشاء أن يصل إلى ذلك المقال. وليس عندي شكٌ في أنه سوف يُكتب في سجلات التاريخ. لكنني أكتفي هنا بإيراد جمل سريعة مما كان يحلم به وائل غنيم قبل ثمانية أسابيع فقط. بدأ وائل كلامه بما يلي، ولابأس في إيراد كلامه بالعامية لأن المقام هو مقام تسجيل تاريخ: «هو انتُعايزين إيه؟من ساعة ما بدأت الصفحة وكل شوية يوصلني السؤال ده بصيغ مختلفة ومن أشخاص مختلفة..» ثم أجاب على ذلك التساؤل بعدة فقرات بدأ كلاً منها بعنوان صار يشرحه فيما بعد. لكنني سأكتفي هنا بطرح تلك العناوين المعبّرة عما كان وائل غنيم يحلم به، وأجزم أن كل شابٍ عربي يشاركه فيه: «نفسي أحس إن لي صوت في بلدي... نفسي الفساد يتحارب في البلد...نفسي المدرسين يغرزوا في الولاد والبنات حب العلم والتعلم...نفسي نبطل واسطة ومحسوبية في البلد...نفسي الرشوة تبقى جريمة كلنا بننكرها...نفسي الحكومة تبطل تتعامل مع الشعب على إنه شوية أطفال مش قادرين يفهموا فمضطرين يضحكوا عليهم...نفسي الشعب يتعامل مع بعضه من غير طبقيةوالناس تبطل تأليه الأشخاص...نفسي نتخلص من السلبية اللي معرفش زرعوها فينا بقصد ولا بدون قصد وزرعوها ازاي...نفسي نتعلم نختلف من غير ما نشتم بعض... نفسي منختزلش علاقتنا بالدين بإننا نسبح مائة مرة ونصلي على النبي خمسين مرة لأن الدين أصلا ربنا عمله منهج لحياة الإنسان والدين بيعلم الإنسان الإيجابية والبناء والمودة والرحمة وحسن الخلق والعدل ومحاربة الظلم...نفسي نحب بعض.. بقى عندي إحساس غريب إن الناس بتستغرب أي حاجة حلوة حواليها.. لو حد اجتهد وبيعمل حاجة عشان بلده يبقى أكيد عميل أو ممول من بره.. أو على أقل تقدير بيحاول يكسب شهرة.. ليه بقت مشاعر الغيظ والكراهية وسوء الظن طاغية على مشاعر الحب والوفاء وحسن الظن؟» تختصر هذه الأحلام كل مطالب المصلحين والمثقفين ويبدو تأثيرها أقوى من كل ماكتبوه بشأنها.. ثم يختم الشاب كلامه بقوله: «على فكرة.. من حقي أحلم ومن حقي أسعى لتحقيق حلمي.. ومن حقك تحلم.. وبجدّ لو بطلنا نحلم نموت». أوضح غنيم من البداية مفهومه للثورة: «الثورة الحقيقية هي ثورة لتغيير سلوكياتنا.. نذاكر ونجتهد في الدراسة.. نشتغل بضمير عشان بلدنا تتقدم.. نفتح مشاريع وننشئ شركات.. مندفعش رشوة ولا ناخد رشوة.. نساعد اللي حوالينا.. نحب بعض ونتلمس الأعذار لبعض.. نحترم اللي بيختلف معانا في الرأي.. نحافظ على الممتلكات العامة ونظافة البلد.. نوصل صورة رائعة للعالم كله عن المصريين.. دي الثورة الحقيقية اللي لازم تحصل.. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». وحين بدأ البعض يتحدث عنه وعن غيره كرموز للثورة كتب قائلاً: «الثورة لا يجب أن تختزل في أي أشخاص.. الثورة هي ثورة شعب كامل.. أبطال الثورة هم كل المصريين ولا يوجد بطل أوحد أو أسطورة أو رمز للثورة نهتف بإسمه وحياته.. مفيش حاجة إسمها بطل الثورة ولا قائد الثورة ولا اللي نظم الثورة.. كلنا عارفين كده كويس.. دي ثورة شعب مصر». ومع كثرة الإشاعات عن طموحه السياسي أعلن: «أعاهد الله سبحانه وتعالى إني بعد تحقيق أحلام الشباب المصري سأنسحب تماما من كل الحياة السياسية دي وأعود إلى حياتي الشخصية كمصري عادي وكلي فخر أن شعب مصر صحي . قلتها في يونيو 2009 وهاقولهاتاني بنفس النص: أنا من الاخر مش عايز غير اني امشي في الشارع فخور اني مصري.. وان اي حد غلبان مينضربش على قفاه ويبقى حتى مش قادر يقول آه.». وعندما بدأ البعض يفكر في إنشاء حزب باسم 25 يناير ناشدهم: «رفض تسمية أي حزب باسم 25 يناير. 25 يناير هو يوم لكل المصريين ولا يمكن أبدا أن يحتكره حزب أو مجموعة لأن ده تشويه للملحمة العظيمة اللي عملها المصريين. يا ريت الشباب يفكروا في أسماء تانية للأحزاب اللي عايزين يشكلوها». لم يقتصر الشباب الذين نتحدث عنهم على وائل غنيم فقد كانت هناك مجموعات شبابية رائعة تقوم بمبادرات حضارية متميزة، حيث ظهرت مشاريع تدعو للمشاركة الشعبية في تطوير البلد، وكان وائل دائماً ينضم إليها ويدعو إليها. كان من هذه المشاريع صفحة بعنوان (بتحلمبإيه) قال عنها غنيم: «شارك برأيك.. شارك باقتراحك.. شارك بصوتك.. أكتر من 48 ألف فكرة ومليون وتلتمائة ألف صوت.. يا ريت نشارك في ايه اللي بنحلم بيه.. كل الأفكار دي وخاصة اللي عليها أعلى نسب تصويت هنعرضها على كل الشخصيات الوطنية المحترمة كمشاريع مقترحة من الشباب المصري». وظهرت مثلها مشاريع رائدة بعناوين مثل (المصري الجديد) و(عايزين إيه من مصر) و(رؤية مصر 2030)، وحتى لتنظيم المرور بعنوان (متيجو نمشي صح)! شارك فيها الملايين من الشباب بالرأي والتصويت والاقتراح. وبعد رحيل مبارك كتب قائلاً: «يللا ننسى كل خلافاتنا.. يللا ننسى مواقفنا السابقة.. يللامنزايدش على بعض.. يللا نحسن الظن ببعض.. يللا نتعلم ونجتهد وننجح.. يللا نشتغل بضمير..يلامندفعش رشوة ولا نكسر إشارة.. يللامنسكتش عن ظلم أو فساد.. يللا نحترم الكبير ونعطف على الصغير ومنعاكسش في الشوارع.. يللا ننظف شوارعنا.. يللا نبدأ صفحة مصر الجديدة». هذا هو الشباب الجديد الذي يريد المشاركة في بناء واقعٍ جديد. وسيعاندُ التاريخ وكلّ قوانين الاجتماع البشري وسننه من يفكر بتغييب هؤلاء وعدم توظيفهم في إقامة ذلك البناء. د. وائل مرزا [email protected] www.waelmerza.com