حرص العلماء المسلمون على مرّ عصورهم ان يصفوا العلماء الذين يقتدى بهم بأوصاف تكاد أن تكون معايير لمن يعبتر منهم قوله، ويأخذ باجتهاده، فالمعلوم بداهة ان الاجتهاد أول معيار يمكن به اطلاق هذا اللقب (عالم) على من يستحقه، والمجتهدون هم من يصدق عليهم قول سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً، ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى اذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)، فهم العلماء حقاً، وباتفاق المقلد لا يعتبر عالماً، كما ان التقليد وهو قبول قول الغير بلا دليل لا يعتبر علماً، واطلاق هذا اللقب على من يقتصر علمه على المذهب الذي يقلد به امامه انما هو تجاوز لا يراد به الحقيقة، فكل من بلغ رتبة الاجتهاد وعلم طرائق الاستنباط هو مِنْ مَنْ عنى الله عز وجل بقوله:(وإذا جاءهم أمر من الأمن والخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وأولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)، وهؤلاء يورثهم العلم خشية الله عز وجل، فهم من حصر الله الخشية فيهم بقوله:(إنما يخشى الله من عباده العلماء)، فمن علم هذا الدين حقاً فخشية الله أهم صفاته ومن كان كذلك فهو احسن الخلق خطاباً، يعف لسانه عن أن ينال عرض مسلم، ولو كان هذا المسلم عاصياً، فهو وارث علم من كان بالخلق رؤوفاً رحيماً -صلى الله عليه وآله وسلم - يدعوهم إلى الخير ويتحمل في سبيل أن يصل اليهم أذاهم، وليس هو من يتجنب الأذى ويرضاه لهم، وهو اقومهم سلوكاً لا يدعو إلى معروف إلا وهو أسبق الناس اليه، ولا ينهى عن منكر إلا وهو أول من يكف نفسه عنه، هؤلاء هم العلماء حقاً، كان منهم بعض الرعيل الاول، الذي آمن بالإسلام من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ورضي الله عنهم وأرضاهم، وفيهم من العلماء العاملين الذين يقتدى بهم الكثيرون، وجاء بعدهم خلف هم الاولى بالاقتداء بهم من التابعين وتابعيهم بإحسان، ومنهم الأئمة الاربعة المتبوعة مذاهبهم أبو حنيفة النعمان، ومالك بن أنس الاصبحي، ومحمد بن ادريس الشافعي، واحمد بن حنبل الشيباني، وقبلهم ومعهم نفر مشهود لهم بالاجتهاد كالامام الاوزاعي والليث بن سعد، ولم يكن أحد من هؤلاء جميعاً، ولا ممن جاء بعدهم دعا إلى أن يلزم المسلمون بقوله أو مذهبه، او تقصر الفتوى عليه وعلى من قلدهم، واستمر هذا حتى عصر الانحطاط، الذي أورثه لنا الجمود على ما اجتهده السابقون عندما شاع التقليد، فالأئمة الأربعة نهوا الناس عن تقليدهم، وكل منم اشار لطلاب العلم ان خذوا من حيث أخذنا، واليوم تشيع دعوة لحصر العلم والاجتهاد في عالم أو فئة من اهل العلم، بدعوى انهم المرجعية، والحقيقة ان هذا تعطيل للاجتهاد الذي هو ضرورة كل عصر، ومثله بالقول بأن الفتوى يجب حصرها في عالم أو نفر من علماء لهم صفة رسمية، وكلا الأمرين لا اصل له في علم الدين، ولم يقل به أحد ممن يعتبر قولهم واجتهادهم، فما هو سوى الزام بالتقليد، فإذا علمنا ان عصرنا هذا ندر فيه المجتهدون، وان غالب المنتسبين إلى العلم مقلدة حتى في بلادنا هذه، فالزام الناس بفتوى المقلدين نزوع إلى الجمود الذي لا يرضاه عاقل لهذا العلم، الذي به يجدد أمر الدين، والامر الاشد خطورة ان يلزم في العقائد باتباع المقلدة، الذين لا يحسنون اجتهاداً ولا استنباطاً، ويكون الامر حيئنذ كارثة على الامة، وقد تردد على الالسنة والاقلام مؤخراً الحديث عن مرجعية فيعلم الدين، لم يدعها قط أحد من اعلام الأئمة المهديين منذ العهود المفضلة وحتى يوم الناس هذا، ولم يقل به أحد من اهل العلم م جمهور الامة، اهل السنة، فلا مرجع في هذا الدين الا إلى مصادره الاصلية (الكتاب والسنة) وما يلحق بهما من الجماع والقياس، مما اجمعت الامة على اناه ادلة احكامه، ثم ما يحلق ذلك من أدلة يؤخذ بها عند ما لا يرد في الادلة الاربعة ما يمكن ان يلقق عليه الحكم، من الادلة الاجتهادية الفرعية كقول الصحابي، وشرع من قبلنا والاستصحاب والعرف والاستحسان والمصلحة المرسلة، ثم ما يتلو ذلك من امارات، والذي يعلم يقيناً الا مرجع في الدين يرجع اليه له صفة بشرية بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فالبشر وان كانوا علماء وظيفتهم الاجتهاد للبحث عن الحكم الاقرب لما يظنونه مراد الله عز وجل وشرعه، فاذا اجتهدوا لم يكن لهم ان يلزموا أحداً بما اجتهدوا فيه، ولأن في هذا العصر حكم الله، وصرف الجهد للوصول إلى حلول لما يعترض الامة من مشكلات في هذا الصعر بعلم وروية خير من تعليق الاجتهاد والفتوى بمعين، الذي ضرره اعظم من منفعته، ان كان له نفع، فهل يدرك المنتسبون هذا، هو ما ارجو والله ولي التوفيق.