هل لفت نظركم إعلان وزارة التعليم العالي بقبول 90% من خريجي الثانوية العامة في الجامعات؟ لست ضد توسيع القبول ولا ضد الحصول على الشهادة الجامعية، وبغض النظر عن التنسيق مع الجامعات، هل تبدو هذه النسبة معقولة أو مقبولة علميا وتربويا، ماذا عن بقية القطاعات والمجالات التي ستلبي احتياجات التنمية ومتطلباتها، ماذا عن المهن المساعدة ومعاهد التعليم والتدريب المهني؟ جميعنا يعلم أن الطبيب أو المهندس، أو أي متخصص في أي فرع من فروع المعرفة يحتاج إلى جيش من المساعدين، كيف سيصبح شكل هرمنا التعليمي عندما تمتلئ قمته بالخريجين ذوي الشهادات العليا وتعاني قاعدته من نقص في الشهادات والتخصصات المتوسطة، هل سنستمر في سياسة الاستقدام إلى الأبد؟ عالميا، هي نسبة ليس لها نظير، لا تطبقها أكثر الدول تقدما وثراء ولا أكثرها تخلفا وفقرا، معظم دول العالم تتراوح نسب القبول الجامعي فيها بين 60 إلى 70%، بل هي تتناسب عكسيا مع درجة تقدم الدولة اقتصاديا وعلميا، وبالذات تقنيا. نسبة ال 90% هذه تقول إن هناك خللا ما، أين؟ لست أدري، ولعل إثارة بعض الأسئلة تنير طريق الإجابة. بداية ومع توقيت الإعلان، سأفترض حسن الظن، وزارة التعليم العالي أرادت طمأنة أولياء الأمور بتوفر مقاعد جامعية كافية لأبنائهم تجنبا لمعاناة كل عام، خصوصا بعد افتتاح المزيد من الجامعات والكثير من التخصصات مما يُسقط حجة القدرة الاستيعابية. غير أن القضية هل نحتاج فعلا كل هذا العدد من خريجي الجامعات أم أننا نتجه نحو توسيع بطالة ذوي الشهادات الجامعية؟ السؤال ليس عن خريجي الكليات النظرية التي تَشبع بهم سوق العمل وفاض، بل عن خريجي الأقسام العلمية والتطبيقية، إذا كان هؤلاء مازال يحتاجهم سوق العمل فلمَ نراهم مازالوا يحملون ملفهم الأخضر العلاقي جريا وراء فرصة عمل؟ لا شك أن وزارة التعليم العالي لا تعمل بمعزل عن جهات عدة، حكومية وأهلية، لتلبية احتياجات التنمية ومتطلباتها العديدة، فهل تلبي هذه النسبة، وسأفترض جدلا أن معظمها سيذهب إلي تخصصات علمية تطبيقية، هل يلبي هذا التوجه مطالب التنمية، هل يمكن تبني استراتيجيات تعليمية كهذه خضوعا لاعتبارات ترضية اجتماعية أو تلبية لاحتياجات وقتية ظرفية؟ سيثار سؤال، والحالئذ، عن دور الكليات التقنية والمعاهد الفنية ومراكز التدريب المهني، وكل تعليم فوق ثانوي، في إتاحة هذه المهن المساعدة لطالبيها وتخفيف الضغط على الجامعات؟ التحقيق الذي نشرته المدينة بتاريخ 8 رجب الماضي، ينفي ذلك، هناك 50 كلية تقنية يلتحق بها أكثر من 60 ألف طالب كل عام إلا أنها، وهنا المصاب، تعاني من تسرب 65% من طلبتها قبل التخرج وبطالة 50% من خريجيها على مدار السبع سنوات الماضية حسب بيانات المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، مما يطرح سؤالا جديدا، هل تعاني الجامعات وكليات خدمة المجتمع وكليات الأمن والكليات التقنية والمعاهد الفنية ومراكز التدريب المهني، وكل معهد تخصصي ما بعد الثانوي، هل تعاني جميعها من خلل في مناهجها التعليمية لتنتج لنا جيوش العاطلين هؤلاء أم أن الخلل في سوق العمل؟ أعيد صياغة سؤال البيضة والدجاجة، هل ظهرت البطالة أولاً أم قبلها زاد عدد خريجي الجامعات والمعاهد؟ هل زاد عدد الجامعات، حكومية وأهلية، وأنشئت كل هذه المعاهد المتخصصة للتعليم فوق الثانوي، حكومية وأهلية، بعيدا عن حاجة السوق؟ أم أن حجة مدراء الجامعات والمعاهد ما زالت قائمة بأن الزيادة السكانية فاجأتهم، كأن أقسام تسجيل المواليد خبأت الأرقام الحقيقية فمدتهم مصلحة الإحصاءات العامة بأعداد مواليد أصبحوا في عمر طلاب المدارس والجامعات؟ سؤالي بالتحديد، هل كان في الأفق ثمة أهداف ومشاريع تنموية وضعت هذه الخطط التعليمية والتأهيلية والتدريبية في هذه الجامعات والمعاهد لتخريج كوادر مؤهلة لقيادة هذه المشاريع وتحقيق أهدافها؟ قد تقولون هذا سؤال عام، حسنا، ما تفسير احتياج السوقين، سوق التخصصات الجامعية والمهنية، مع وجود وفرة في عدد الخريجين المؤهلين، كيف لم يتقابل السبب مع النتيجة، ولم تتقابل البدايات مع نهاياتها، كيف لم يلتق طرفا القضية، المهنة والمتخصص والوظيفة والموظف الجاهز؟ هل ستعيدونني إلى خلل المناهج التي لا تلبي حاجة السوق وقد رأينا الحاجة والوفرة في الجانبين؟ مرة أخيرة أين الخلل؟ كما قلت في مقالات سابقة، أمر البطالة لدينا أمر محير، لا يماثله سوى ما تعانيه مثلنا دول الخليج، بل كل دولة ظل اقتصادها ريعيا على مر السنين، اقتصاد يركز على صرف الموارد لا على تنميتها، لذا لا عجب أن عجزت كل خططنا التنموية التسع عن تحقيق هدفها الأول منذ ما قبل أربعين عاما وحتى اليوم بتنويع مصادر الدخل أو صنع التنمية بيد المواطن، إذا كان من يأكل ويلبس ويتطبب بما يصنع وينتج غيره يعتبر متخلفا، فما بالكم بمن يبني ويدير مصانعه ويشيد تنميته بيد غيره! قبل السؤال عن أين الخلل، لابد أن نسأل هل كانت وزارة العمل أو حتى وزارة الخدمة المدنية، بل كل وزارة لها صلة، جادة في فرض السعودة؟ لا أعتقد وإلا ما وصلنا لما نحن فيه، فكيف، بالله عليكم، نفترض جدية القطاع الخاص، الذي استسهل عملية الاستقدام، مع سياسة تتمنى توظيف السعوديين ولا تفرض ذلك بقوة القانون والإلزام وبالتشجيع والحوافز والمشاركة في تحمل العبء؟ « صنع في السعودية» أو «أنتج في السعودية» ليس مجرد دمغة على مُنتج، هو نتاج مراحل طويلة من الإعداد والاستعداد ومن التعلم والتدرب، من التضحية بمكاسب آنية ومصالح شخصية لأجل تحقيق مصالح عامة مستقبلية، بدون نظرة شمولية كهذه سيظل ويستمر الخلل.